الحياة الجديدة / سماح نصار
«حدث في العامرية»*
توثيق مُمَوسق لجريمة لم يحاسب مرتكبوها بعد
العامرية ، حدث في العامرية ، ملجأ العامرية كلها أسماء لمعزوفة موسيقية للفنان العراقي نصير شمة ألفها وأداها في العام 1991.
عن هذه المقطوعة الموسيقية يقول نصير شمة «هذه المعزوفة ولدت بعد دقائق من جريمة ملجأ العامرية وكنت حينها في بغداد فهرعت الى الملجأ وسمعت صرخات الضحايا وشاهدت جثثهم وشممت دخان الحريق الذي اصاب المكان والتهم الجثث وبقيت اياما اشتغل على المعزوفة بمعدل ثماني ساعات في اليوم حتى اكتمل العمل الذي اختزل كل الوجع».
هذا الوجع اختزلته بل نطقت به موسيقى العود ذات الايقاع الراوي للجريمة صعودا وهبوطا سرعة وبطئا موتا وحياة، بدءًا من الدقائق الأخيرة التي سبقت القصف مرورا بلحظة سقوط الصواريخ الذكية وحدوث الكارثة وانتهاء بالأمل رغم الألم بعودة الحياة الى البلد الذي طحنه الغزو وفتتّته الحروب.
كانت معزوفة العامرية تحمل إشارات موسيقية عالية عن الكارثة ضمن منهج تصويري موسيقي نطق بالدلالات السابقة ، ذلك يتضح في مقاطع محددة من المعزوفة أبرزها : صفارات الانذار التي سبقت القصف، عويل الضحايا والنيران تاكل الاجساد، الالم، البكاء، الاذان، والجنائز، الأمل والصمود والفرح في موسيقي مارش.
وكما صرح شمة قبل تقديم مقطوعته المعبرة ، فإنه كان شاهد عيان على تلك المحرقة وقت وقوعها عندما كان جنديا بالجيش العراقي خلال الاجتياح الأميركي الأول للعراق عام 1991م ، وما عجز هذا الفنان عن تصويره بلسانه، عبر عنه بموسيقى العود وبجسده وايماءاته.
وثق المأسآة ونطق موسيقيا بحكم سياسي تاريخي ثقافي تقطع العلاقة بين كل مستعمِر ومستعمَر وهكذا مارست هذه المعزوفة دورها في السنوات التي تلت المأساة عبر علاقة مباشرة بين المؤدين والمتلقين نفت صفة القوة عن المحتل أو المستعمِر في اخفاء ملامح الكارثة التي ارتكبها ، فعندما أقامت القوات الأميركية الغازية جدارا حول الملجأ المتحف لم تستطع أن توقف الصورة التي قدمها نصير شمة في معزوفته «حدث في ملجأ العامرية» ولم تتمكن تلك القوة من اخفاء معالم الكارثة التي وثقتها التجربة الشعورية الموسيقية في هذه المقطوعة التي قدمها شمة في أكثر من 600 عرض خاص وجابت دول العالم كله. وهكذا يمكن القول أن هذا الشكل من الموسيقى كان له تأثير فعال في إبراز رسالة الموسيقى الإنسانية الوطنية المقاوِمة المؤرِخة.
في مقدمة هذه المقطوعة الموسيقية يصور الفنان شمة تفاصيل دقيقة لتلك اللحظات التي سبقت القصف وكأن الأوتار الموسيقية كانت توثق تغميا وشوشات الأطفال ولعبهم وتوتر الكبار وضحكات الآخرين الذين كانوا يعتقدون أنهم في منجى من نيران القصف، أحيانا حتى نداءات الأمهات على أطفالهن تبدو مصورة في موسيقى العود في هذه المقطوعة. لقد جال شمه عبر اهتزاز أوتار عوده في ممرات ذلك الملجأ. فجأة وبانتقالة سريعة تنطلق عبر الأوتار صفارات الإنذار منذرة بقرب تعرض بغداد لغارة جديدة، ثم يرتفع أزيز الطائرات يختلط صوتها بصوت طلقات المضادات الأرضية، يرتفع الأزيز، ترتفع الأصوات والجلبة هنا يصبح المتلقي شاهدا على تحول المكان الى ساحة من الرعب الصاخب. وفجأة يعلو صوت انفجارات مرعبة من عود «شمة» تغطي على كل الأصوات فيخيل للمستمع او المشاهد أنه في ملجأ العامرية وأنه بعد لحظات سيكون لا بد جزءا من الضحايا أو واحدا منهم.
صمت مفاجئ يعم المكان، تقطعه من حين لآخر أصوات انهيارات أجزاء من الملجأ يتقن تصويرها موسيقيا بأوتار العود ثم نسمع ونرى ربما، عبر النغمات والايقاع ولوحة جسد الفنان، صوت ثكلى جريحة تخرج من تحت الركام او عويلا من هول المشهد ثم جلبة وصياحا هستيريا يطلقه من هرعوا للمكان بعد المحرقة بعد أن شاهدوا البقايا المتفحمة لمن كانت قبل لحظات تملأ ضحكاتهم ومشاغباتهم الملجأ بالحياة والأمل.
يأخذنا شمة بعد هذا المشهد المرعب لحضور المشهد الجنائزي الحزين. اللوحة الموسيقية تستمر تنطلق من جديد من بين الرماد فينقلنا «نصير شمة» بعزف حماسي تعبوي في ختام مقطوعته المعبرة من حالة الانهيار إلى موسيقى تبعث الأمل في النفوس فتنطلق ايقاعات وترية تجذر روح التحدي والإصرار على المقاومة وصنع الحياة.
الحضور الديني في المقطوعة اتضح في قالب وحدوي لصالح الانسان والوطن في هذه المعزوفة فقرع اجراس الكنتسية وأطلق الأذان بعزف وتري على العود ما بعد لحظة الموت في دلالة رمزية للتنوع الديني والعرقي في العراق الذي أخفاه قصف ملجأ العامرية فتوحد الكل حول العراق ومن أجل الانسان. ولعل في هذا ايضا دلالات اجتماعية تؤشر الى ما ساد العراق في حينه من ذوبان للهويات الفردية مقابل الهوية الجمْعية للعراق.
الخطاب الوطني التعبوي ظهر جليا في هذه المقطوعة بآخرها مع الايقاعات التي رسمت لوحة أمل وتحد للغزاة وللقاتل مع الاصرار على الحياة. وفي بعد اللحظات كان المتلقي يشعر أنه أمام عرض عسكري على ايقاع المارش في مشهد صورته موسيقى «شمّة» تأثرا بخلفيته العسكرية ربما كونه خدم في الجيش العراقي تلك الفترة ، وربما أيضا نتلمس هنا تأثرا بالعقيدة الوطنية العسكرية التي كرسها الرئيس العراقي في حينه حين كان الجيش العراقي بعد كل غارة ومع انتهاء الحرب يقدم عروضه العسكرية في ساحات العاصمة ومدن أخرى كانت مسرحا للعدوان الأجنبي في دلالة لاحتفاظ العراق بعناصر قوته رغم الضربات.
« حدث في العامرية « موْسقة لكارثة العامرية وجريمة عصر لم يحاسب مرتكبوها ، هي موسقة الحدث المهول في ثلاثة مشاهد يبدأ الأول بتجسيد الحياة الطبيعية للمحتمين في الملجأ تتجسد وتصوّر موسيقيا بعزف منفرد على العود ليأخذنا إلى الرهبة مما يحمله المشهد الثاني ؛ لحظة القصف ، فيعزف الكارثة ويدرك المتلقي بصرياً وسمعياً كل تفاصيلها وماتلاها من وجع انساني قبل أن يختتم المقطوعة بلوحة الأمل والحماسة للحياة وهكذا تغدو موسيقاه مسرحاً وممثلين وسنوغرافيا وهو المخرج الذي يصوغ لنا هذه المشهدية.
* ملجأ قصفته القوات الأميركية عام 1991 وقتل فيه أكثر من 400 امراة وطفل وشيخ كبير، وحتى اليوم ما زالت خصلات من شعر النساء وبقايا من جلد اجساد القتلى ملتصقة باحد الجدران التي علقت عليها صور بالاسود والابيض لمعظم القتلى، وفي العام 2000 قرر مجلس الوزراء العراقي تحويل الملجأ الى متحف يثبت «حجم الجريمة التي ارتكبتها» الادارة الاميركية ضد المدنيين العراقيين. وكان العراق يستذكر هذه الذكرى في يوم 13 شباط من كل عام، وبعد الاحتلال الأميركي عام 2003 تم الغاء هذه المناسبة. وأقامت القوات الاميركية جدارا عاليا حول الملجأ المتحف ومنعت الدخول اليه أو ترميمه .. حتى شباط عام 2011 حين قرر اهالي العامرية العودة لإحياء الذكرى الأليمة في كل عام.
«حدث في العامرية»*
توثيق مُمَوسق لجريمة لم يحاسب مرتكبوها بعد
العامرية ، حدث في العامرية ، ملجأ العامرية كلها أسماء لمعزوفة موسيقية للفنان العراقي نصير شمة ألفها وأداها في العام 1991.
عن هذه المقطوعة الموسيقية يقول نصير شمة «هذه المعزوفة ولدت بعد دقائق من جريمة ملجأ العامرية وكنت حينها في بغداد فهرعت الى الملجأ وسمعت صرخات الضحايا وشاهدت جثثهم وشممت دخان الحريق الذي اصاب المكان والتهم الجثث وبقيت اياما اشتغل على المعزوفة بمعدل ثماني ساعات في اليوم حتى اكتمل العمل الذي اختزل كل الوجع».
هذا الوجع اختزلته بل نطقت به موسيقى العود ذات الايقاع الراوي للجريمة صعودا وهبوطا سرعة وبطئا موتا وحياة، بدءًا من الدقائق الأخيرة التي سبقت القصف مرورا بلحظة سقوط الصواريخ الذكية وحدوث الكارثة وانتهاء بالأمل رغم الألم بعودة الحياة الى البلد الذي طحنه الغزو وفتتّته الحروب.
كانت معزوفة العامرية تحمل إشارات موسيقية عالية عن الكارثة ضمن منهج تصويري موسيقي نطق بالدلالات السابقة ، ذلك يتضح في مقاطع محددة من المعزوفة أبرزها : صفارات الانذار التي سبقت القصف، عويل الضحايا والنيران تاكل الاجساد، الالم، البكاء، الاذان، والجنائز، الأمل والصمود والفرح في موسيقي مارش.
وكما صرح شمة قبل تقديم مقطوعته المعبرة ، فإنه كان شاهد عيان على تلك المحرقة وقت وقوعها عندما كان جنديا بالجيش العراقي خلال الاجتياح الأميركي الأول للعراق عام 1991م ، وما عجز هذا الفنان عن تصويره بلسانه، عبر عنه بموسيقى العود وبجسده وايماءاته.
وثق المأسآة ونطق موسيقيا بحكم سياسي تاريخي ثقافي تقطع العلاقة بين كل مستعمِر ومستعمَر وهكذا مارست هذه المعزوفة دورها في السنوات التي تلت المأساة عبر علاقة مباشرة بين المؤدين والمتلقين نفت صفة القوة عن المحتل أو المستعمِر في اخفاء ملامح الكارثة التي ارتكبها ، فعندما أقامت القوات الأميركية الغازية جدارا حول الملجأ المتحف لم تستطع أن توقف الصورة التي قدمها نصير شمة في معزوفته «حدث في ملجأ العامرية» ولم تتمكن تلك القوة من اخفاء معالم الكارثة التي وثقتها التجربة الشعورية الموسيقية في هذه المقطوعة التي قدمها شمة في أكثر من 600 عرض خاص وجابت دول العالم كله. وهكذا يمكن القول أن هذا الشكل من الموسيقى كان له تأثير فعال في إبراز رسالة الموسيقى الإنسانية الوطنية المقاوِمة المؤرِخة.
في مقدمة هذه المقطوعة الموسيقية يصور الفنان شمة تفاصيل دقيقة لتلك اللحظات التي سبقت القصف وكأن الأوتار الموسيقية كانت توثق تغميا وشوشات الأطفال ولعبهم وتوتر الكبار وضحكات الآخرين الذين كانوا يعتقدون أنهم في منجى من نيران القصف، أحيانا حتى نداءات الأمهات على أطفالهن تبدو مصورة في موسيقى العود في هذه المقطوعة. لقد جال شمه عبر اهتزاز أوتار عوده في ممرات ذلك الملجأ. فجأة وبانتقالة سريعة تنطلق عبر الأوتار صفارات الإنذار منذرة بقرب تعرض بغداد لغارة جديدة، ثم يرتفع أزيز الطائرات يختلط صوتها بصوت طلقات المضادات الأرضية، يرتفع الأزيز، ترتفع الأصوات والجلبة هنا يصبح المتلقي شاهدا على تحول المكان الى ساحة من الرعب الصاخب. وفجأة يعلو صوت انفجارات مرعبة من عود «شمة» تغطي على كل الأصوات فيخيل للمستمع او المشاهد أنه في ملجأ العامرية وأنه بعد لحظات سيكون لا بد جزءا من الضحايا أو واحدا منهم.
صمت مفاجئ يعم المكان، تقطعه من حين لآخر أصوات انهيارات أجزاء من الملجأ يتقن تصويرها موسيقيا بأوتار العود ثم نسمع ونرى ربما، عبر النغمات والايقاع ولوحة جسد الفنان، صوت ثكلى جريحة تخرج من تحت الركام او عويلا من هول المشهد ثم جلبة وصياحا هستيريا يطلقه من هرعوا للمكان بعد المحرقة بعد أن شاهدوا البقايا المتفحمة لمن كانت قبل لحظات تملأ ضحكاتهم ومشاغباتهم الملجأ بالحياة والأمل.
يأخذنا شمة بعد هذا المشهد المرعب لحضور المشهد الجنائزي الحزين. اللوحة الموسيقية تستمر تنطلق من جديد من بين الرماد فينقلنا «نصير شمة» بعزف حماسي تعبوي في ختام مقطوعته المعبرة من حالة الانهيار إلى موسيقى تبعث الأمل في النفوس فتنطلق ايقاعات وترية تجذر روح التحدي والإصرار على المقاومة وصنع الحياة.
الحضور الديني في المقطوعة اتضح في قالب وحدوي لصالح الانسان والوطن في هذه المعزوفة فقرع اجراس الكنتسية وأطلق الأذان بعزف وتري على العود ما بعد لحظة الموت في دلالة رمزية للتنوع الديني والعرقي في العراق الذي أخفاه قصف ملجأ العامرية فتوحد الكل حول العراق ومن أجل الانسان. ولعل في هذا ايضا دلالات اجتماعية تؤشر الى ما ساد العراق في حينه من ذوبان للهويات الفردية مقابل الهوية الجمْعية للعراق.
الخطاب الوطني التعبوي ظهر جليا في هذه المقطوعة بآخرها مع الايقاعات التي رسمت لوحة أمل وتحد للغزاة وللقاتل مع الاصرار على الحياة. وفي بعد اللحظات كان المتلقي يشعر أنه أمام عرض عسكري على ايقاع المارش في مشهد صورته موسيقى «شمّة» تأثرا بخلفيته العسكرية ربما كونه خدم في الجيش العراقي تلك الفترة ، وربما أيضا نتلمس هنا تأثرا بالعقيدة الوطنية العسكرية التي كرسها الرئيس العراقي في حينه حين كان الجيش العراقي بعد كل غارة ومع انتهاء الحرب يقدم عروضه العسكرية في ساحات العاصمة ومدن أخرى كانت مسرحا للعدوان الأجنبي في دلالة لاحتفاظ العراق بعناصر قوته رغم الضربات.
« حدث في العامرية « موْسقة لكارثة العامرية وجريمة عصر لم يحاسب مرتكبوها ، هي موسقة الحدث المهول في ثلاثة مشاهد يبدأ الأول بتجسيد الحياة الطبيعية للمحتمين في الملجأ تتجسد وتصوّر موسيقيا بعزف منفرد على العود ليأخذنا إلى الرهبة مما يحمله المشهد الثاني ؛ لحظة القصف ، فيعزف الكارثة ويدرك المتلقي بصرياً وسمعياً كل تفاصيلها وماتلاها من وجع انساني قبل أن يختتم المقطوعة بلوحة الأمل والحماسة للحياة وهكذا تغدو موسيقاه مسرحاً وممثلين وسنوغرافيا وهو المخرج الذي يصوغ لنا هذه المشهدية.
* ملجأ قصفته القوات الأميركية عام 1991 وقتل فيه أكثر من 400 امراة وطفل وشيخ كبير، وحتى اليوم ما زالت خصلات من شعر النساء وبقايا من جلد اجساد القتلى ملتصقة باحد الجدران التي علقت عليها صور بالاسود والابيض لمعظم القتلى، وفي العام 2000 قرر مجلس الوزراء العراقي تحويل الملجأ الى متحف يثبت «حجم الجريمة التي ارتكبتها» الادارة الاميركية ضد المدنيين العراقيين. وكان العراق يستذكر هذه الذكرى في يوم 13 شباط من كل عام، وبعد الاحتلال الأميركي عام 2003 تم الغاء هذه المناسبة. وأقامت القوات الاميركية جدارا عاليا حول الملجأ المتحف ومنعت الدخول اليه أو ترميمه .. حتى شباط عام 2011 حين قرر اهالي العامرية العودة لإحياء الذكرى الأليمة في كل عام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق