د. حسين سرمك حسن
(رأيتهم وهم يرفعون الأشرطة اللاصقة من على النوافذ والأبواب، وهم يزيلون الغبار وشظايا الزجاج (من يلملم ما تشظى في داخلنا؟
(إرادة الجبوري) / قصة (رماد ندي)
(ردّ الفعل الوحيد.. على قبر طفل.. هو أن ترقد قبالته وتدّعي الموت)
الشاعر الأمريكي (بيل نوت)
كنت أود أن أجعل عنوان هذه المقالة تساؤلا هو: أين أصبحت إرادة الجبوري؟ لكنني خشيت أن يرتد سهم التساؤل إلى صدر تقصيري في ملاحقة أعمال هذه القاصة العراقية المهمة، التي كتبت عنها في التسعينات دراستين عن قصتين رائعتين لها في إطار أدب الحرب الكبير الذي يُكتب بعد الحرب، وهما " على الجسر " و" لاشيء سواها "، والأخيرة، وعلى مسؤوليتي، يمكن أن تصنف ضمن أدب الحرب العالمي. حصلت مؤخرا على آخر مجموعة قصصية لإرادة صادرة عام 1999عن إتحاد الكتاب العرب، وعنوانها هو "في الغابة ". ضمت المجموعة ثماني قصص من بينها القصتين اللتين ذكرتهما وكتبت عنهما سابقا. القصص الأخرى هي: همسة لا مبالية، هو رأى أيضا، رماد ندي، فراشات ضالة، في الغابة وغبار المدن. وفي هذه المجموعة تطالع مقدرة متميزة في كتابة القصة القصيرة، لكاتبة صعدت سدّة السرد باقتدار، وأمسكت بشروط بناء النص القصصي بإحكام. ولعل من الميزات المهمة في كتابة إرادة الجبوري هو إخلاصها لموضوعة الحرب التي خربت بلادها وأجهضت آمال شعبها. الحرب التي قلت مرارا أن المثابرة العزوم على معالجتها التأملية الهادئة – بعيدا عن الزعيق التعبوي الفج – يشكل واحدا من المفاتيح المهمة في النهوض بالإبداع العراقي نهوضا شاملا، مثلما تسببت في نهوض الأدب في البلدان الأوربية. وحتى في نصوص المجموعة التي لا تعالج آثار الحرب التي مزقت النفس البشرية بصورة مباشرة، نجد شبح الموت والخراب قد استولى عليها. ومن المفروغ منه بالنسبة لي أن الأدب العظيم هو ابن الموت وربيبه وسادنه. الأدب هو أرقى عملية نفسية دفاعية بوجه الموت. وإلا فاذكر لي أي عمل عظيم في تاريخ الإنسانية لم يكن الموت محوره ومفتاح تألقه وتاج وقائعه: أوديب الملك؟ هملت؟ الأخوة كرامازوف؟ الحرب والسلم؟ الأحمر والأسود؟ أولاد حارتنا؟ أم المسرات والأوجاع؟. في قصة " رماد ندي " تستهل القاصة النص بصورة هادئة ومتوازنة: (تستيقظ المدينة بخجلها المألوف، وأستيقظ قبلها. أقف عند النافذة المطلة على الحديقة. أراقب تغيرها اليومي البطيء. أتذكر أني نسيت تقليم الرازقي والروز. أؤجله إلى الموسم القادم – ص 23). ثم تستعرض حركة الحياة الرخية المسالمة وهي – والقصة تحكى بضمير المتكلمة كما هو حال الغالبية المطلقة من نصوص إرادة القاصة – تسير من بيتها إلى موقف الباص تلاحقها قطتها البيضاء. وفي موقف الباص الذي تجعله القاصة أنموذجا مصغرا لحياة المدينة الخجلى، توزّع مشهدية الحركة اليومية على مجموعة من الشخوص: الأصدقاء الصغار الثلاثة، الرجل الهرم، الذي لا يجرؤ أحد على الجلوس في مكانه، والأم التي تحمل صغيرها، والفتاة الشاحبة التي تنتظر حبيبها الشاب الأسمر، والباص وسائقه المرح الذي يغني أغنية عراقية حزينة.. وهي – الراوية – التي تجلس في مكانها المعاد قرب نافذة الباص.. مستعيدة ذكرى خراب تجربتها الأليمة التي أوقعتها في مصيدة انتظار مديد ومتطاول. ومن سمات إرادة الإسلوبية المهمة هي " اللايقينية " التي تضعك وسط دوامتها. لا إفصاح مباشر ومطلق.. دائما تقدم الخيبة في صورة جرعات مترددة.. وعدم وضع حدود سردية توصيفية قاطعة يجعل أنموذج الخراب يتسع.. ويتسع ليشملنا بعطاياه: (لم أودعه. أعرف أن الأمر كان قاسيا عليه مثل قسوته علي. لم أرغب في أن يكون وجهي آخر شيء تقع عليه نظراته وهو يغادر. كنت أخشى إحساسي بأنني لن أرى الشخص الذي عرفت بعد تلك اللحظة، وأنه لن يكون نفسه عندما يعود. وكان يعي ذلك تماما – ص 25). هذا التحسب المسبق من خراب غير مؤكد لكنه يقيني يشيع في نصوص الكاتبة، ولا يمكن فصله عن حالة الفقدان الوشيك السوداء التي تثيرها الحرب في النفوس. كل ما هو قائم زائل لا محالة.. وكل ما هو قابل للتوديع، قابل لعدم العودة وللرحيل الأبدي. الحرب (تجعل الانتظار تعويضا عن غياب الأمل – ص 25). جعل الغياب حياة الراوية محكومة بمعادلة شائكة، ومعقدة.. تسهم في إرباكها إرباكا مستعصيا تفر فيه من الرمضاء إلى النار كما يقال: (كان علي أن أخوض معركة التمسك بالانتظار لحمايتي من السقوط في مستنقع الإنسجام مع الخارج والتسلّح بسلاحه: الخطيئة – ص 26). لكننا لا نلتفت إلى خطيئة من نوع آخر ؛ خطيئة عدم التوديع - في عيادتي الطبية راجعتني زوجة شهيد مصابة بالاكتئاب الشديد تكرر باستمرار: لماذا زعّلته في آخر إجازة؟ -. في الحرب فقط تصبح لأدنى الأفعال الإنسانية قيمة، ولأتفه التصرفات معان وجودية كبرى. الأصدقاء الصغار الثلاثة والرجل الهرم والمرأة الحامل والفتاة الشابة و.. و.. وكلهم رموز يومية أخفت بريقها الاعتياد والرتابة.. وصدئت معانيها الرمزية.. ولا قيمة لأي منّا من دون التأويل الرمزي الذي يقوم به لاشعورنا في مشغله المهيب الملغز. الحرب هي التي تضفي القيمة الرمزية اللاشعورية الحاسمة على كل الموجودات وخصوصا المحتقر منها. وحين تحضر الحرب تتوهج الحياة مفعمة بقلق الفقدان. الفقدان الذي يجعلنا نلتفت وبقوة عاتية إلى موضوعة الوحدة، وأننا ولأول مرة بحاجة إلى آخر.. إلى آخرين: (وحيدة أنتظر، يوما وآخر ولم يأت أحد: المرأة الحامل.. الصبيان الثلاثة.. الفتاة الشابة.. الشاب النزق.. الأم.. طفلها.. لم يأت أحد. وحيدة كنت. لقد حضرت الحرب – 27). وجملة (لقد حضرت الحرب) تعني الغياب المؤكد والمهدد لكل شيء.. حتى أكثر الأشياء رسوخا في عمر الفرد. حضرت الحرب.. حضرت الغولة التي ستلحس كل شيء.. حتى الطيور صارت سوداء من الدخان وغيوم الانفجارات وتنطلق متخبطة مع كل صافرة إنذار. ولا موعد ثابتا لأي شيء في الحرب عدا الدقة المدوّخة والمباغتة لمواعيد قطار الموت السريع. لعبة الفقدان هذه، اللعبة العشوائية جعلت الراوية تبتكر لعبتها الخلاقة التي تهدهد قلق الموت المشتعل في أعماقها. في الحرب يغيّر الموت الوجوه.. يغيّبها.. يبدلها.. يعكسها.. يشوّهها.. يقلبها كيفما يشاء.. فلم لا تلعب لعبته لتثبت رهاوتها – وهي هشة مهما كانت محكمة إذ لا عاصم من أمر المثكل –، لعبة في " الخلق " ؛ خلق تركيبات بشرية جديدة حتى لو كانت متخيّلة: (بين صافرة إنذار وأخرى تمتد مساحة طويلة من انتظار وجوه أحببتها، وها أنا أفتقدها. أبحث عنها في وجوه الجنود. تخيلت قصصا عنها وقرابات يمكن أن تربطها بهذه الوجوه: صاحب هذا الوجه، مثلا، يمكن أن يكون أبا لذلك الطالب. هذا الرجل الرصين يمكن أن يكون زوجا لتلك المرأة الحامل.. و.. و.. بدأ الأمر لعبة آنية وأصبح حقيقة – ص 28). وهكذا تبدأ كل المهالك الكارثية في الكون.. بكلمة.. بتحد.. بلعبة عابرة ممتعة تصبح كابوسا مدمرا.. ولعبة كانت مماهاة شخص الراوية التي فقدت حبيبها بالفتاة التي كانت تنتظر فتاها الشاب الأسمر الذي يقابل فقيدها الذي لعبت معه لعبة الإنتظار.. لكن من أين تستحضر وجه حبيب الفتاة البديل الحالم؟ من بين وجوه الجنود.. وهي وجوه غير حالمة بل حرم عليها الموت الحلم الهاديء الشفيف.. (الحرب والأحلام: كيف يمكن أن يلتقيا؟ - ص 28). عيون الجنود الذين كانت تنتظرهم وتراهم عيون غائرة بلا بريق لا تنتظر سوى الموت. لكن المشكلة التي لم تنتبه إليها إرادة هي أنه في ظلمات الحرب يشتعل بياض الأحلام.. وما قصتها إلا حلم وجيز شديد البياض.. مثلوم الإيحاءات.. يعجز عن ترصين إرادة الخلود التخديرية في نفوسنا.. رغم كل مهابته المقاومة التي يحاول ترسيخها في نفوسنا. في (على الجسر) لا يمكن أن يحبس القاريء دموعه الساخنة وهو يحاول فهم سرّ انقباض روح " البطلة " – ونحن نسميها البطلة رغم انكسارها، البطل هو من يحاول تحقيق رغباتنا اللاشعورية حتى لو انهزم وانكسرت إرادته – أو انكسارها وهي تصدم برحيل " البطل " / القائد في قصة " ولا شيء سواها " الذي جعل حياة وموت رفاقه " قرعة ".. لعبة يانصيب !!. والختام الدامي.. الخراب الإنساني الكبير.. الدرس الفاجع.. هو الذي تغيب فيه القاصة المبدعة انتباهة بصيرتنا النقدية وتستدرجنا إلى موقع مستنكر لأنه مراوغ االتنكير.. هو الإبداع.. الذي تقدم القاصة وفقه ختاما لقصتها لا يضاهى.. ختام الخراب وحطام النفوس الجريحة المحطمة التي يتأجج فعلها في نفوسنا من خلال لعبة " اللايقينية " المناورة.. لعبة رجراجة لا تتيح لك الإمساك بحق حافات خرابها المسننة.. ولا بباطل هذايانات أحلام التعويض عن خسائر الإحباط.. ختام لا يغني عنه سوى ذكره وتسطيره: (يصعد الجميع. تتخذ الفتاة المتشحة بالسواد مكاني عند النافذة. أقف عند الرصيف. أرى أناملها تمسح ضبابا أسود غطى النافذة. نظرتْ إليّ من خلاله. تبادلنا ابتسامة هادئة متفهمة امتزجت مع رماد الندى، فأتت حنونا معتقة. تحرك الباص. ألتفت إلى الوراء. يبتعد الباص. يتلاشى. أعود بانتظاري وأجلس في مكان الرجل الهرم – ص 33و34). من ودّع من؟ من اختار لعبة الانتظار المميتة عرفانا لغياب؟ ما معنى أن تخطف الحرب حبيبا لك.. وتجلس في موقف باص الحياة المهزومة تركّب وجوه خساراتك المجيدة ؟.. هكذا نصحو.. على ضربات أنامل إرادة الساردة الناعمة لكن الجارحة.. جارحة بأظافر توغل في نفس المتلقي كخنجر وداع صغير ينغرز في القلب المهجور.. يهتز وجداننا.. ونعود لنتدفأ – ولأول مرة – بالرماد الندي.. الآن اتضح معنى الرماد الندى.. ولا ثريا لنص قبل استيعاب الصورة الكلية للنص. قد يعتقد البعض حين يطالع العنوان أنه تجسيد لبقية من حياة وأمل تلوب في أحشاء الرماد.. لكن الآن – وعند الختام - يعكس العنوان حالة الخراب الشاملة وجفاف الآمال الحارق الكامل.. تجلت مضامين الرماد ؛ إنها رماد الروح التي مزقتها الحرب فأدمنت لعبة الإنتظار التي يمل منها حتى غودو طيب الذكر. إنتظار غودو مفتوح على معنى حتى لو كان ذاك المعنى هو معنى اللاجدوى والخواء. لم يخسر أبطال بيكيت أحبتهم وقططهم البيضاء.. هنا – في الخاتمة – يغطي الرماد " الندي " جسد الحياة ويكتم أنفاسها: فالأدغال والأعشاب اكتسحت الحديقة بفعل الإهمال.. كيف تهتم الرواية بحديقة بيتها الصغيرة.. ولمن؟ مادامت حديقة الحياة الأكبر قد أحرقتها الحرب؟.. الوجوه المألوفة لا مبالية.. الأم الحامل تصل بدون طفلها.. مكان الرجل الهرم فارغ.. الفتاة المنتظرة متشحة بالسواد.. الشاب النزق الذي كان يعاكس جمالها صار يخجل منها.. للسواد جلاله ومهابته.. سائق الباص المرح صار يغني الأغنية المرحة بنبرة حزينة.. في حين كان في السابق يغني الأغنية العراقية الحزينة بمرح. والآن صار في الباص فعلا أماكن فارغة تكفي الجميع. أما في قصة " فراشات ضالة " فإن الكاتبة تعود إلى الضرب على وتر الخراب الذي ضربت عليه من قبل في قصة " على الجسر ". فإذا كان القاريء لا يجد سوى شهقة في الروح يتعاطف بها مع بطلة " على الجسر " المنذهلة المثكولة بالموت وتداعيات الرجل المتصدع الذي عجز عن انقاذ طفله من محرقة ملجأ العامرية بسبب الأوامر، فإنه لن يشعر إلا ودمعتان ساخنتان تسيحان على خديه وهو يلاحق حائرا الكيفية التي تتهشم فيها روح بطلة قصة " فراشات ضالة " مثل لوح زجاج لا أمل في إعادة إلتحام أوصاله أبدا. " كل ما بيننا انتهى، ويجب أن نفترق ". هكذا ومرة واحدة. ولكن البطلة تتدرب على هذه الكلمة منذ أسابيع كي تمهد لانفصالها عن حبيبها !! وهنا مربط الآلام المبرحة، فالمران على كلمات الإنفصال يعني قوة أواصر الحب وسطوة حضور المحبوب. يتجلى هذا التمزق النفسي الموجع في أنها لا تستطيع إطلاق عبارة الفراق مباشرة، بل تسجلها على " شريط "، تسمعه فتنكر أن يكون الصوت صوتها. صوت الهجران القسري يأتي قبيحا ولا يرتبط بها. ومع دوامة عذابات هذه الإنسانة المعذبة نلوب معها ولا نعلم ما بها حصرا. (لا الصوت صوتها، ولا الذات ذاتها. أرعبتها هذه النتيجة التي حاولت عدم مواجهتها منذ زمن بعيد لم تعد تتذكره. كانت تتهرب من ذاتها أو مما تبقى منها وتؤجل التوقف عند أطلالها. شعرت بالألم يعتصرها وكأنه مدية تخترق أعصابها بهدوء ومهارة – ص 48). إن أبشع حالات العذاب النفسي حدة تحصل حين تفلت من المرء فرصة إنقاذ روحه. ويشعر، فوق ذلك أن حتى الله قد تخلى عنه. تتساءل المرأة: " لمَ لمْ أنقذ روحي؟ يا إلهي لمَ تخليت عني؟ - ص 48 ". لقد رُميت بلا رحمة خارج الدائرة البيضاء التي تسمى الحياة ولم تقع بعد في الدائرة السوداء المسماة بالموت. وهذا هو العذاب بعينه. كان بإمكانها – سابقا – أن تتخلص من أعباء الماضي وثقل الحاضر الخانق بتقنية أسمتها " الصمت الأزرق " ؛ أن تسترخي على سريرها وتركز على نقطة في سقف الغرفة فتشعر بأنها أخف وزنا وأن روحها تفيض بها.. تخرج من جسدها وتحمله إلى مديات غير مرئية. في تلك اللحظات تشعر بأنها لا تسير، بل أن خطواتها تمتزج كليا بالهواء.. مثل فراشة، كانت سعيدة – ص 48و49). لكنها الآن تختنق في لجة " الصمت الأسود "، الذي تغوص فيه بفعل ثقل حمولة معاناتها. كانت فراشة سعيدة لكنها الآن فراشة ضالة. في أيام الصمت الأزرق الرغيدة , وطوال أيام الحرب المدمرة، كانت تلعب مع حبيبها لعبة السعادة المستعارة. فقد كان الموت يحاصرهم من كلّ جانب، ويشعرهما بعبثية البقاء وهشاشته التي لا تصدق، فتنهار هي تحت وطأة هذه الحقيقة الصادمة، ويقوم هو (بدور المفسر للأحداث والوقائع على نحو معاكس تبدو معه كلّ الأشياء ممكنة وذات معنى، وبلمسة الحب السحرية – كما يسميها – يستأجر لروحها السعادة – ص 49). وما أن تمضي أيام حتى ينهار هو، فتلجأ هي بدورها إلى حقن روحه المتعبة البائسة بجرعات الحب التخديرية كما يفعل هو. لكن سرعان مايزول مفعول المخدر تحت لطمات الصواريخ المهلكة التي توقظهما بأسرع وقت ليختنقا من جديد برائحة الدم. هذه اللعبة دفاعية وتخديرية ولذا فهي لا تصمد أمام واقع الموت المجاني. لا يوجد في الحياة البشرية أي آلية نفسية دفاعية تصمد حتى النهاية في وجه حقيقة أننا الحيوانات الوحيدة التي تموت، وأنها تدرك بأنها لابدّ أن تموت حسب تعبير " فولتير ". لكن الأشد قسوة هو أننا، في الحالات العادية نعتقد أننا لا يمكن أن نموت، لأن لاشعورنا عصي على الفناء ؛ قد نعترف بموت الآخرين، ولكننا لا نقر بفنائنا الشخصي إلا في لحظات التأسي العابرة على الآخر الذي خسرناه. لكن عندما يخيم شبح الحرب، ندرك بشكل لا غبار عليه أننا " يمكن " أن، بل " قد " نموت حتما. وبهذا تكون لعبة حقن السعادة المستعارة بالعقلنة أو بجرعات المخدر العاطفي، عبارة عن عملية هروبية يائسة. (انشغلا كليا بالهرب ولم يتصورا أن الخراب ينتشر كالغبار، ويعلق بكل شيء حتى بروحيهما. منصهران معا، كانا يشيدان سعادتهما فوق أرض من الجثث – ص 49). ويبدأ الخراب المشترك، مثلما يبدأ التفاهم المشترك، بأداة التواصل ؛ اللغة. من بين أول علامات الخراب هو عندما تعجز المفردات عن وصف ما يحصل لك من تمزق وانكسار. (منذ متى افتقدت سكينة الروح؟ لا تتذكر جيدا، لكنها بدأت تعي ذلك عندما أصبحت الكلمات بينهما جثث تنخرها الذكريات الموجعة عن أيام أوهما فيها روحيهما بالسعادة – ص50). هنا يصبح الفرد مثل "الزومبي " الذي غادر العالم الأسفل إلى العالم الأعلى.. يمشي ويتحرك.. ولكنه لا يتكلم. وحال العراقيين الذين عاشوا الحرب العالمية الثالثة في عدوان 1991 هو حال الزومبي. يمشون ويأكلون ويتنفسون ولكن لا أحد منهم – حتى مبدعيهم شُلّوا – قادرا على الإفصاح عن وجه الموت الذي واجهه، بل احتضنه. ولهذا قلنا أن أدب هذه الحرب يُكتب بعدها، بعد أن تعود الحياة في أوصال جثث المفردات.. ويستعيد الكاتب قدرته على السيطرة عليها والتلاعب بها. وحال الكثير من العراقيين عقب تلك الكارثة الفاجعة يذكّرنا بحال شخصيات الحكايات الأسطورية التي تدخل مغارة الموت ثم تخرج مشبوحة العيون، فاغرة الأفواه، جامدة التعابير، وقد فقدت القدرة على وصف ما شاهدته. وعلى هذا الوجه الشبحي حاولت الفتاة وحبيبها وضع " قناع السعادة " كجزء من محاولة مستميتة للتكيّف مع حركة الحياة القاسية التي لا تعرف الرحمة ولا تواسي أحدا. وفي الليل.. وحين تخلع هذا القناع الزائف ليلا، ويظهر الوجه الشبحي.. وجه الروح الممزق العاري على حقيقته تتأكد من أنها لم تكن تلعب إلا لعبة للنسيان ولنيل رضا الآخرين.. لعبة تنهك روحها وجسدها نهارا، ولا تجد من سبيل للسيطرة على نتائجها المؤرقة ليلا بغير الأقراص المهدئة. لكن حتى هذه الاٌقراص كان مفعولها مثل مفعول لعبة السعادة المستأجرة أو لعبة قناع السعادة أو حقنة مخدر الحب.. كلّها وقتية وليست في واقعها أكثر من خداع للذات.. لا خلاص دائم.. هؤلاء هم ضحايا اضطراب بشع نسمّيه (عقبى الشدائد الفاجعة – posttraumatic stress disorder) وأفظع ما فيه هو أن ذكريات الكارثة تلصق بذاكرة الضحية من ناحية وتستثيرها أبسط المؤثرات من ناحية أخرى. لكن أي شدة فاجعة هذه التي تطاردها؟ إنها كارثة العصر وجريمته، جريمة ملجأ العامرية التي تلاحقها حتى وهي مسترخية بين ذراعي حبيبها: (وهي بين ذراعيه تنبثق صورة ذاك اليوم الذي اندفعت فيه إلى النهاية، هربا من أصوات الأطفال المختنقين المحاصرين بالموت في ملجأ العامرية وبكاء الأمهات وجزعهن.. عويل سيارات الإسعاف والإطفاء المتأخرة.. الصرخات.. أصوات قرع المحاصرين على الأبواب.. قرعهم وهو يخبو (يأسا).. الاستغاثات وهي تستسلم لصمت الموت – ص 51). كان يكفي أسرى الحرب لكي ينفجروا وينهاروا بعد سنوات طويلة من عودتهم، أن يطلب منهم موظف في دائرة رسمية الوقوف في طابور !! بعضهم تشكو زوجاتهم من نومهم على الأرض وليس على السرير، ومن دخولهم التواليت دون أن يغلقوا الباب !!. تصبح التفصيلات اليومية البريئة أدوات تذكّر بسنوات العذاب. جحيم ضحايا عقبى الشدائد الفاجعة هو أن الحياة عندهم تصير بدقائقها علامات على الحضور الطاغي والمؤكد الوشيك للموت !. كل شيء يوقظ أشباح الخراب التي احتلت مساحة هائلة من نفس الضحية. ولكن ما تعيشه المرأة لا يمكن وصف مرارته ورهبته، فهو يمثل أعلى أشكال هذا الاضطراب، ويتمثل في أن أي لحظة متعة حبية، أي التحام بحبيبها صار يُفسد بفعل اقتران ملذات الحب الملتهبة بأسوأ ما في صور مذبحة ملجأ العامرية من بشاعة ووحشية. فحين تداعبها شفتاه تنتصب في فسحة خيالها صورة طفل يحتضر متماهية مع الطفل المحترق.. أما وشوشاتها الغرامية بإذنه فتلتحم فورا بعويل الأمهات المثكولات.. و.. (أنها لا تستطيع إلا أن تتخيل طفلا يحتضر بينما كانت هي تنعم بمداعبة شفتيه.. عويل النسوة ووشوشات حبها بأذنه، ونعومة كفه على عنقها، والنيران تبتلع أجساد الرضع محولة إياها إلى فحم. ومثلما فقدت أقراص المنوم والمهدئات قدرتها على طرد الذكريات، أصبح يفجعها افتقاد السلام الروحي بعد احتدام جسديهما، وتمسكهما بقناع السعادة حتى وهما معا – ص 51). (وللمعلومات.. وبعد عدة سنوات قامت الدكتورة مها يونس ببحث على الأطفال العراقيين في منطقة العامرية من أصدقاء الأطفال الذين أحرقتهم الولايات المتحدة في الملجأ فوجدت أنهم يعانون من أعراض نفسية مرضية كثيرة.. والأهم أنهم عند ذهابهم إلى المدرسة يتجنبون أي شارع يمر بالملجأ ويعيد إلى أذهانهم ذكرى أصدقائهم المغدورين والراحلين حرقا، أما الطبيب العراقي محمد العبودي اختصاصي الطب النفسي فقد وجد أن عائلات ضحايا ملجأ العامرية يعانون من اضطرابات نفسية شديدة بعد سنوات من المحرقة). وتحصل نقلة خطيرة جدا حين تتوسع لعنة الخراب لتغلف النظرة الوجودية للمرأة إلى الحياة ومعنى أن تعيشها ؛ وأن تتساءل عن قيمة أي شيء في البيئة التي تحيط بها مهما كان هذا الشيء بسيطا مثل غصن شجرة المشمش التي كانت تحبها حين تغطيها نتف الثلج فتبدو براعمها البيضاء كفراشات ضالة. أفسدت الحرب كل معاني الجمال في حياتها، ولم يسلم منها حتى غصن شجرة المشمش الذي قطعه لها حبيبها من شجرة بيت هجره أهله بسبب القصف وهطول الأمطار السوداء. ففي الوقت الذي كانا يحتفلان فيه مع شجرة المشمش، كان أحد الطيارين الأمريكان يرش الموت على مجموعة من الجنود المحاصرين لأنهم حاولوا إسقاط طائرته بأسلحتهم الخفيفة وقد أثارهم خيلاء الطائرة المرتبط بإشاعة الخراب والموت. (حتى شجرة عيد الميلاد شبّه أحد الجنود الأمريكان في رسالة لأمه شعلتها بالحرائق التي أحدثها في جسد بغداد !!). لقد عمّ الإرباك حياتيهما إلى الأبد وركبهما الشعور بالذنب في أبسط التصرفات الحياتية. فعندما وصلا البيت حاولا الانشغال عن مواجهة أحدهما الآخر وكأنهما قد ارتكبا إثما كبيرا ولا يقوى أي منهما على النظر في وجه الآخر، فذهب ليسقي الحديقة برغم أمطار اليوم السابق !!. لقد وصلا إلى نقطة اللاعودة بعد أن أصبح الموت وإثم البقاء ينام بينهما في الفراش ويشاركهما في كل شيء. و" إثم البقاء – survival guilt " ليس وصفا سرديا مجازيا لعذاب نفسي متصوّر، بل هو جحيم حقيقي يكتوي به من يخرج ناجيا – للأسف – من كارثة رهيبة تمحق حيوات من يرتبط بهم ويعيش معهم. يبدأ الفرد بالتساؤل: لماذا ماتوا وبقيت حيّا؟ كان المواطنون اليابانيون الناجين من كارثة هيروشيما يشكلون جمعيات الناجين لأنهم يصلون إلى مرحلة لا يستطيعون فيها التفاهم مع غيرهم، فكيف يكون الحال مع شعب كامل، الشعب العراقي، جُزر جزء كبير منه بأبشع الطرق، و"نجا" الباقون ممزقي الروح والأوصال؟!. لكن اللعبة السردية الفريدة التي لعبتها القاصة في قصتها السابقة تعود لتكررها بصورة أكثر خلاقية هنا: وهي دخولها إلى ساحة القصة بنفسها، وتبادلها الأدوار مع شخوصها بصورة أكثر مباشرة. تتحدث الكاتبة عن بطلتها بضمير الغائب فتعيد الصورة الافتتاحية المؤلمة التي تتمرن فيها الأخيرة على نطق مفردات الانفصال النهائي، ثم تحصل نقلة سردية مباشرة نطالع فيها راوية تتحدث بضمير المتكلمة: (أجلس في غرفتي عند النافذة المطلّة على قمم الأشجار.. ص 55). وترسم لنا الراوية / القاصة لوحة تشكيلية موغلة في الجمال لتشكلات حركة الطبيعة وتلونات حياة مكوناتها من أشجار وطيور.. تشكلات وتلونات تعزف سيمفونية كونية كبرى خطوط نوتاتها أسلاك الكهرباء وسلالمها أجسام العصافير التي تتناغم مع حركة طير الحسون المختال والحمامة المتعثرة وهما تعبيران رمزيان محكمان عن بطلي قصتها في عرض حالهما الإبتدائي المتذبذب: (أسراب من العصافير تنطلق فجأة من أعالي الأشجار في حدائق البيوت فتشكل في السماء منحنيات سرعان ما تتحول إلى موجات راقصة على امتداد أسلاك الكهرباء مكونة سلالم موسيقية تتناغم في حركتها مع طائر الحسون والحمامة اللذين أجفلتهما الأمواج فجازا نحو أعالي الأشجار – ص 56). وأصوات الطيور – في نقلة إيحائية مصممة بقصدية عالية – تمتزج في فوضى تشبه أصوات الأطفال عند أبواب مدرسة في نهاية يوم دراسي ؛ زعيق الأطفال المحبب، الأطفال الذين أُحرقوا في ملجأ العامرية، وظل ألم البقاء بعدهم يدمر حياة بطلتها التي تتذكرها حين يحل الظلام وتنتابها - أي القاصة - المشاعر المبهمة، فتتذكر الفتاة وهي تروح وتجيء في غرفتها تحلم بلحظات الصمت الأزرق. وهنا تفجّر القاصة تساؤلا هائلا يرتبط بسر العملية الإبداعية من ناحية ويكشف المسكوت عنه في علاقتها ببطليها من ناحية أخرى. إنها تتساءل عن السبب الذي جعلها كقاصة لا تتيح الفرصة لبطلتها المحطمة أن تقول لحبيبها ما تريد بالطريقة التي تشاء وفي الوقت الذي تقدّر ملاءمته؟! وسيثور في ذهننا تساؤل مكمل: هل من حق الكاتب أن يستعير حياة شخوصه ويتلاعب بها كيف يشاء، محددا لحظات الخراب الفاصلة؟. وكأن الإجابة التي تقدمها إرادة في الأسطر الختامية من قصتها ترسم الدور الحاسم لـ " إرادة " المؤلف الذي يرفض الموت.. والذي لا يمكن أن يستتر وراء شخوصه فنيا إلا ليتجسد من خلالهم نفسيا. المؤلف لا يموت.. المؤلف "تستحيل" حياته إلى حيوات شخوصه، وتتمظهر من خلال جزئيات سلوكاتهم. المؤلف ينشطر بمكر ولا يموت كما وقع رولاند بارت في وهم فنائه. والمؤلف الذي شاهد محرقة ملجأ العامرية لا يمكن أن يموت.. لأن في موته موت القاريء نفسه.. وخراب النص ذاته، إذ كيف يستعير القاريء حياة مظهرية مختلقة منقطعة عن الحياة الأصل الدامية التي تفوح منها رائحة شواء لحم بشري، وعويل أمهات، وأب يتعرف على بقايا مصير طفله من ساعته اليدوية التي استعارها منه طفله ليلة المحنة وهي تمرق طافية فوق تيار رماد الأجسام الغضة، هل هو ذاك الطفل الذي لم يستطع الرجل المتصدع إنقاذه بسبب الأوامر في قصة "على الجسر": (هكذا مثل ثلج الربيع الذي يتبدد، أترانا سنتساقط في اتجاهات مختلفة، ليختار كلّ منا سبيله: هي، هو، أنا.. هما يحاولان الحياة ويدومان كفراشات ضالة، وأنا امرأة تكتب مستعيرة حياتهما عساها أن تصل إلى سكينة صمت زرقاء تحلم بها).
............................
صحيفة المثقف: (العدد: 1602 الجمعة 10 /12 /2010)
(رأيتهم وهم يرفعون الأشرطة اللاصقة من على النوافذ والأبواب، وهم يزيلون الغبار وشظايا الزجاج (من يلملم ما تشظى في داخلنا؟
(إرادة الجبوري) / قصة (رماد ندي)
(ردّ الفعل الوحيد.. على قبر طفل.. هو أن ترقد قبالته وتدّعي الموت)
الشاعر الأمريكي (بيل نوت)
كنت أود أن أجعل عنوان هذه المقالة تساؤلا هو: أين أصبحت إرادة الجبوري؟ لكنني خشيت أن يرتد سهم التساؤل إلى صدر تقصيري في ملاحقة أعمال هذه القاصة العراقية المهمة، التي كتبت عنها في التسعينات دراستين عن قصتين رائعتين لها في إطار أدب الحرب الكبير الذي يُكتب بعد الحرب، وهما " على الجسر " و" لاشيء سواها "، والأخيرة، وعلى مسؤوليتي، يمكن أن تصنف ضمن أدب الحرب العالمي. حصلت مؤخرا على آخر مجموعة قصصية لإرادة صادرة عام 1999عن إتحاد الكتاب العرب، وعنوانها هو "في الغابة ". ضمت المجموعة ثماني قصص من بينها القصتين اللتين ذكرتهما وكتبت عنهما سابقا. القصص الأخرى هي: همسة لا مبالية، هو رأى أيضا، رماد ندي، فراشات ضالة، في الغابة وغبار المدن. وفي هذه المجموعة تطالع مقدرة متميزة في كتابة القصة القصيرة، لكاتبة صعدت سدّة السرد باقتدار، وأمسكت بشروط بناء النص القصصي بإحكام. ولعل من الميزات المهمة في كتابة إرادة الجبوري هو إخلاصها لموضوعة الحرب التي خربت بلادها وأجهضت آمال شعبها. الحرب التي قلت مرارا أن المثابرة العزوم على معالجتها التأملية الهادئة – بعيدا عن الزعيق التعبوي الفج – يشكل واحدا من المفاتيح المهمة في النهوض بالإبداع العراقي نهوضا شاملا، مثلما تسببت في نهوض الأدب في البلدان الأوربية. وحتى في نصوص المجموعة التي لا تعالج آثار الحرب التي مزقت النفس البشرية بصورة مباشرة، نجد شبح الموت والخراب قد استولى عليها. ومن المفروغ منه بالنسبة لي أن الأدب العظيم هو ابن الموت وربيبه وسادنه. الأدب هو أرقى عملية نفسية دفاعية بوجه الموت. وإلا فاذكر لي أي عمل عظيم في تاريخ الإنسانية لم يكن الموت محوره ومفتاح تألقه وتاج وقائعه: أوديب الملك؟ هملت؟ الأخوة كرامازوف؟ الحرب والسلم؟ الأحمر والأسود؟ أولاد حارتنا؟ أم المسرات والأوجاع؟. في قصة " رماد ندي " تستهل القاصة النص بصورة هادئة ومتوازنة: (تستيقظ المدينة بخجلها المألوف، وأستيقظ قبلها. أقف عند النافذة المطلة على الحديقة. أراقب تغيرها اليومي البطيء. أتذكر أني نسيت تقليم الرازقي والروز. أؤجله إلى الموسم القادم – ص 23). ثم تستعرض حركة الحياة الرخية المسالمة وهي – والقصة تحكى بضمير المتكلمة كما هو حال الغالبية المطلقة من نصوص إرادة القاصة – تسير من بيتها إلى موقف الباص تلاحقها قطتها البيضاء. وفي موقف الباص الذي تجعله القاصة أنموذجا مصغرا لحياة المدينة الخجلى، توزّع مشهدية الحركة اليومية على مجموعة من الشخوص: الأصدقاء الصغار الثلاثة، الرجل الهرم، الذي لا يجرؤ أحد على الجلوس في مكانه، والأم التي تحمل صغيرها، والفتاة الشاحبة التي تنتظر حبيبها الشاب الأسمر، والباص وسائقه المرح الذي يغني أغنية عراقية حزينة.. وهي – الراوية – التي تجلس في مكانها المعاد قرب نافذة الباص.. مستعيدة ذكرى خراب تجربتها الأليمة التي أوقعتها في مصيدة انتظار مديد ومتطاول. ومن سمات إرادة الإسلوبية المهمة هي " اللايقينية " التي تضعك وسط دوامتها. لا إفصاح مباشر ومطلق.. دائما تقدم الخيبة في صورة جرعات مترددة.. وعدم وضع حدود سردية توصيفية قاطعة يجعل أنموذج الخراب يتسع.. ويتسع ليشملنا بعطاياه: (لم أودعه. أعرف أن الأمر كان قاسيا عليه مثل قسوته علي. لم أرغب في أن يكون وجهي آخر شيء تقع عليه نظراته وهو يغادر. كنت أخشى إحساسي بأنني لن أرى الشخص الذي عرفت بعد تلك اللحظة، وأنه لن يكون نفسه عندما يعود. وكان يعي ذلك تماما – ص 25). هذا التحسب المسبق من خراب غير مؤكد لكنه يقيني يشيع في نصوص الكاتبة، ولا يمكن فصله عن حالة الفقدان الوشيك السوداء التي تثيرها الحرب في النفوس. كل ما هو قائم زائل لا محالة.. وكل ما هو قابل للتوديع، قابل لعدم العودة وللرحيل الأبدي. الحرب (تجعل الانتظار تعويضا عن غياب الأمل – ص 25). جعل الغياب حياة الراوية محكومة بمعادلة شائكة، ومعقدة.. تسهم في إرباكها إرباكا مستعصيا تفر فيه من الرمضاء إلى النار كما يقال: (كان علي أن أخوض معركة التمسك بالانتظار لحمايتي من السقوط في مستنقع الإنسجام مع الخارج والتسلّح بسلاحه: الخطيئة – ص 26). لكننا لا نلتفت إلى خطيئة من نوع آخر ؛ خطيئة عدم التوديع - في عيادتي الطبية راجعتني زوجة شهيد مصابة بالاكتئاب الشديد تكرر باستمرار: لماذا زعّلته في آخر إجازة؟ -. في الحرب فقط تصبح لأدنى الأفعال الإنسانية قيمة، ولأتفه التصرفات معان وجودية كبرى. الأصدقاء الصغار الثلاثة والرجل الهرم والمرأة الحامل والفتاة الشابة و.. و.. وكلهم رموز يومية أخفت بريقها الاعتياد والرتابة.. وصدئت معانيها الرمزية.. ولا قيمة لأي منّا من دون التأويل الرمزي الذي يقوم به لاشعورنا في مشغله المهيب الملغز. الحرب هي التي تضفي القيمة الرمزية اللاشعورية الحاسمة على كل الموجودات وخصوصا المحتقر منها. وحين تحضر الحرب تتوهج الحياة مفعمة بقلق الفقدان. الفقدان الذي يجعلنا نلتفت وبقوة عاتية إلى موضوعة الوحدة، وأننا ولأول مرة بحاجة إلى آخر.. إلى آخرين: (وحيدة أنتظر، يوما وآخر ولم يأت أحد: المرأة الحامل.. الصبيان الثلاثة.. الفتاة الشابة.. الشاب النزق.. الأم.. طفلها.. لم يأت أحد. وحيدة كنت. لقد حضرت الحرب – 27). وجملة (لقد حضرت الحرب) تعني الغياب المؤكد والمهدد لكل شيء.. حتى أكثر الأشياء رسوخا في عمر الفرد. حضرت الحرب.. حضرت الغولة التي ستلحس كل شيء.. حتى الطيور صارت سوداء من الدخان وغيوم الانفجارات وتنطلق متخبطة مع كل صافرة إنذار. ولا موعد ثابتا لأي شيء في الحرب عدا الدقة المدوّخة والمباغتة لمواعيد قطار الموت السريع. لعبة الفقدان هذه، اللعبة العشوائية جعلت الراوية تبتكر لعبتها الخلاقة التي تهدهد قلق الموت المشتعل في أعماقها. في الحرب يغيّر الموت الوجوه.. يغيّبها.. يبدلها.. يعكسها.. يشوّهها.. يقلبها كيفما يشاء.. فلم لا تلعب لعبته لتثبت رهاوتها – وهي هشة مهما كانت محكمة إذ لا عاصم من أمر المثكل –، لعبة في " الخلق " ؛ خلق تركيبات بشرية جديدة حتى لو كانت متخيّلة: (بين صافرة إنذار وأخرى تمتد مساحة طويلة من انتظار وجوه أحببتها، وها أنا أفتقدها. أبحث عنها في وجوه الجنود. تخيلت قصصا عنها وقرابات يمكن أن تربطها بهذه الوجوه: صاحب هذا الوجه، مثلا، يمكن أن يكون أبا لذلك الطالب. هذا الرجل الرصين يمكن أن يكون زوجا لتلك المرأة الحامل.. و.. و.. بدأ الأمر لعبة آنية وأصبح حقيقة – ص 28). وهكذا تبدأ كل المهالك الكارثية في الكون.. بكلمة.. بتحد.. بلعبة عابرة ممتعة تصبح كابوسا مدمرا.. ولعبة كانت مماهاة شخص الراوية التي فقدت حبيبها بالفتاة التي كانت تنتظر فتاها الشاب الأسمر الذي يقابل فقيدها الذي لعبت معه لعبة الإنتظار.. لكن من أين تستحضر وجه حبيب الفتاة البديل الحالم؟ من بين وجوه الجنود.. وهي وجوه غير حالمة بل حرم عليها الموت الحلم الهاديء الشفيف.. (الحرب والأحلام: كيف يمكن أن يلتقيا؟ - ص 28). عيون الجنود الذين كانت تنتظرهم وتراهم عيون غائرة بلا بريق لا تنتظر سوى الموت. لكن المشكلة التي لم تنتبه إليها إرادة هي أنه في ظلمات الحرب يشتعل بياض الأحلام.. وما قصتها إلا حلم وجيز شديد البياض.. مثلوم الإيحاءات.. يعجز عن ترصين إرادة الخلود التخديرية في نفوسنا.. رغم كل مهابته المقاومة التي يحاول ترسيخها في نفوسنا. في (على الجسر) لا يمكن أن يحبس القاريء دموعه الساخنة وهو يحاول فهم سرّ انقباض روح " البطلة " – ونحن نسميها البطلة رغم انكسارها، البطل هو من يحاول تحقيق رغباتنا اللاشعورية حتى لو انهزم وانكسرت إرادته – أو انكسارها وهي تصدم برحيل " البطل " / القائد في قصة " ولا شيء سواها " الذي جعل حياة وموت رفاقه " قرعة ".. لعبة يانصيب !!. والختام الدامي.. الخراب الإنساني الكبير.. الدرس الفاجع.. هو الذي تغيب فيه القاصة المبدعة انتباهة بصيرتنا النقدية وتستدرجنا إلى موقع مستنكر لأنه مراوغ االتنكير.. هو الإبداع.. الذي تقدم القاصة وفقه ختاما لقصتها لا يضاهى.. ختام الخراب وحطام النفوس الجريحة المحطمة التي يتأجج فعلها في نفوسنا من خلال لعبة " اللايقينية " المناورة.. لعبة رجراجة لا تتيح لك الإمساك بحق حافات خرابها المسننة.. ولا بباطل هذايانات أحلام التعويض عن خسائر الإحباط.. ختام لا يغني عنه سوى ذكره وتسطيره: (يصعد الجميع. تتخذ الفتاة المتشحة بالسواد مكاني عند النافذة. أقف عند الرصيف. أرى أناملها تمسح ضبابا أسود غطى النافذة. نظرتْ إليّ من خلاله. تبادلنا ابتسامة هادئة متفهمة امتزجت مع رماد الندى، فأتت حنونا معتقة. تحرك الباص. ألتفت إلى الوراء. يبتعد الباص. يتلاشى. أعود بانتظاري وأجلس في مكان الرجل الهرم – ص 33و34). من ودّع من؟ من اختار لعبة الانتظار المميتة عرفانا لغياب؟ ما معنى أن تخطف الحرب حبيبا لك.. وتجلس في موقف باص الحياة المهزومة تركّب وجوه خساراتك المجيدة ؟.. هكذا نصحو.. على ضربات أنامل إرادة الساردة الناعمة لكن الجارحة.. جارحة بأظافر توغل في نفس المتلقي كخنجر وداع صغير ينغرز في القلب المهجور.. يهتز وجداننا.. ونعود لنتدفأ – ولأول مرة – بالرماد الندي.. الآن اتضح معنى الرماد الندى.. ولا ثريا لنص قبل استيعاب الصورة الكلية للنص. قد يعتقد البعض حين يطالع العنوان أنه تجسيد لبقية من حياة وأمل تلوب في أحشاء الرماد.. لكن الآن – وعند الختام - يعكس العنوان حالة الخراب الشاملة وجفاف الآمال الحارق الكامل.. تجلت مضامين الرماد ؛ إنها رماد الروح التي مزقتها الحرب فأدمنت لعبة الإنتظار التي يمل منها حتى غودو طيب الذكر. إنتظار غودو مفتوح على معنى حتى لو كان ذاك المعنى هو معنى اللاجدوى والخواء. لم يخسر أبطال بيكيت أحبتهم وقططهم البيضاء.. هنا – في الخاتمة – يغطي الرماد " الندي " جسد الحياة ويكتم أنفاسها: فالأدغال والأعشاب اكتسحت الحديقة بفعل الإهمال.. كيف تهتم الرواية بحديقة بيتها الصغيرة.. ولمن؟ مادامت حديقة الحياة الأكبر قد أحرقتها الحرب؟.. الوجوه المألوفة لا مبالية.. الأم الحامل تصل بدون طفلها.. مكان الرجل الهرم فارغ.. الفتاة المنتظرة متشحة بالسواد.. الشاب النزق الذي كان يعاكس جمالها صار يخجل منها.. للسواد جلاله ومهابته.. سائق الباص المرح صار يغني الأغنية المرحة بنبرة حزينة.. في حين كان في السابق يغني الأغنية العراقية الحزينة بمرح. والآن صار في الباص فعلا أماكن فارغة تكفي الجميع. أما في قصة " فراشات ضالة " فإن الكاتبة تعود إلى الضرب على وتر الخراب الذي ضربت عليه من قبل في قصة " على الجسر ". فإذا كان القاريء لا يجد سوى شهقة في الروح يتعاطف بها مع بطلة " على الجسر " المنذهلة المثكولة بالموت وتداعيات الرجل المتصدع الذي عجز عن انقاذ طفله من محرقة ملجأ العامرية بسبب الأوامر، فإنه لن يشعر إلا ودمعتان ساخنتان تسيحان على خديه وهو يلاحق حائرا الكيفية التي تتهشم فيها روح بطلة قصة " فراشات ضالة " مثل لوح زجاج لا أمل في إعادة إلتحام أوصاله أبدا. " كل ما بيننا انتهى، ويجب أن نفترق ". هكذا ومرة واحدة. ولكن البطلة تتدرب على هذه الكلمة منذ أسابيع كي تمهد لانفصالها عن حبيبها !! وهنا مربط الآلام المبرحة، فالمران على كلمات الإنفصال يعني قوة أواصر الحب وسطوة حضور المحبوب. يتجلى هذا التمزق النفسي الموجع في أنها لا تستطيع إطلاق عبارة الفراق مباشرة، بل تسجلها على " شريط "، تسمعه فتنكر أن يكون الصوت صوتها. صوت الهجران القسري يأتي قبيحا ولا يرتبط بها. ومع دوامة عذابات هذه الإنسانة المعذبة نلوب معها ولا نعلم ما بها حصرا. (لا الصوت صوتها، ولا الذات ذاتها. أرعبتها هذه النتيجة التي حاولت عدم مواجهتها منذ زمن بعيد لم تعد تتذكره. كانت تتهرب من ذاتها أو مما تبقى منها وتؤجل التوقف عند أطلالها. شعرت بالألم يعتصرها وكأنه مدية تخترق أعصابها بهدوء ومهارة – ص 48). إن أبشع حالات العذاب النفسي حدة تحصل حين تفلت من المرء فرصة إنقاذ روحه. ويشعر، فوق ذلك أن حتى الله قد تخلى عنه. تتساءل المرأة: " لمَ لمْ أنقذ روحي؟ يا إلهي لمَ تخليت عني؟ - ص 48 ". لقد رُميت بلا رحمة خارج الدائرة البيضاء التي تسمى الحياة ولم تقع بعد في الدائرة السوداء المسماة بالموت. وهذا هو العذاب بعينه. كان بإمكانها – سابقا – أن تتخلص من أعباء الماضي وثقل الحاضر الخانق بتقنية أسمتها " الصمت الأزرق " ؛ أن تسترخي على سريرها وتركز على نقطة في سقف الغرفة فتشعر بأنها أخف وزنا وأن روحها تفيض بها.. تخرج من جسدها وتحمله إلى مديات غير مرئية. في تلك اللحظات تشعر بأنها لا تسير، بل أن خطواتها تمتزج كليا بالهواء.. مثل فراشة، كانت سعيدة – ص 48و49). لكنها الآن تختنق في لجة " الصمت الأسود "، الذي تغوص فيه بفعل ثقل حمولة معاناتها. كانت فراشة سعيدة لكنها الآن فراشة ضالة. في أيام الصمت الأزرق الرغيدة , وطوال أيام الحرب المدمرة، كانت تلعب مع حبيبها لعبة السعادة المستعارة. فقد كان الموت يحاصرهم من كلّ جانب، ويشعرهما بعبثية البقاء وهشاشته التي لا تصدق، فتنهار هي تحت وطأة هذه الحقيقة الصادمة، ويقوم هو (بدور المفسر للأحداث والوقائع على نحو معاكس تبدو معه كلّ الأشياء ممكنة وذات معنى، وبلمسة الحب السحرية – كما يسميها – يستأجر لروحها السعادة – ص 49). وما أن تمضي أيام حتى ينهار هو، فتلجأ هي بدورها إلى حقن روحه المتعبة البائسة بجرعات الحب التخديرية كما يفعل هو. لكن سرعان مايزول مفعول المخدر تحت لطمات الصواريخ المهلكة التي توقظهما بأسرع وقت ليختنقا من جديد برائحة الدم. هذه اللعبة دفاعية وتخديرية ولذا فهي لا تصمد أمام واقع الموت المجاني. لا يوجد في الحياة البشرية أي آلية نفسية دفاعية تصمد حتى النهاية في وجه حقيقة أننا الحيوانات الوحيدة التي تموت، وأنها تدرك بأنها لابدّ أن تموت حسب تعبير " فولتير ". لكن الأشد قسوة هو أننا، في الحالات العادية نعتقد أننا لا يمكن أن نموت، لأن لاشعورنا عصي على الفناء ؛ قد نعترف بموت الآخرين، ولكننا لا نقر بفنائنا الشخصي إلا في لحظات التأسي العابرة على الآخر الذي خسرناه. لكن عندما يخيم شبح الحرب، ندرك بشكل لا غبار عليه أننا " يمكن " أن، بل " قد " نموت حتما. وبهذا تكون لعبة حقن السعادة المستعارة بالعقلنة أو بجرعات المخدر العاطفي، عبارة عن عملية هروبية يائسة. (انشغلا كليا بالهرب ولم يتصورا أن الخراب ينتشر كالغبار، ويعلق بكل شيء حتى بروحيهما. منصهران معا، كانا يشيدان سعادتهما فوق أرض من الجثث – ص 49). ويبدأ الخراب المشترك، مثلما يبدأ التفاهم المشترك، بأداة التواصل ؛ اللغة. من بين أول علامات الخراب هو عندما تعجز المفردات عن وصف ما يحصل لك من تمزق وانكسار. (منذ متى افتقدت سكينة الروح؟ لا تتذكر جيدا، لكنها بدأت تعي ذلك عندما أصبحت الكلمات بينهما جثث تنخرها الذكريات الموجعة عن أيام أوهما فيها روحيهما بالسعادة – ص50). هنا يصبح الفرد مثل "الزومبي " الذي غادر العالم الأسفل إلى العالم الأعلى.. يمشي ويتحرك.. ولكنه لا يتكلم. وحال العراقيين الذين عاشوا الحرب العالمية الثالثة في عدوان 1991 هو حال الزومبي. يمشون ويأكلون ويتنفسون ولكن لا أحد منهم – حتى مبدعيهم شُلّوا – قادرا على الإفصاح عن وجه الموت الذي واجهه، بل احتضنه. ولهذا قلنا أن أدب هذه الحرب يُكتب بعدها، بعد أن تعود الحياة في أوصال جثث المفردات.. ويستعيد الكاتب قدرته على السيطرة عليها والتلاعب بها. وحال الكثير من العراقيين عقب تلك الكارثة الفاجعة يذكّرنا بحال شخصيات الحكايات الأسطورية التي تدخل مغارة الموت ثم تخرج مشبوحة العيون، فاغرة الأفواه، جامدة التعابير، وقد فقدت القدرة على وصف ما شاهدته. وعلى هذا الوجه الشبحي حاولت الفتاة وحبيبها وضع " قناع السعادة " كجزء من محاولة مستميتة للتكيّف مع حركة الحياة القاسية التي لا تعرف الرحمة ولا تواسي أحدا. وفي الليل.. وحين تخلع هذا القناع الزائف ليلا، ويظهر الوجه الشبحي.. وجه الروح الممزق العاري على حقيقته تتأكد من أنها لم تكن تلعب إلا لعبة للنسيان ولنيل رضا الآخرين.. لعبة تنهك روحها وجسدها نهارا، ولا تجد من سبيل للسيطرة على نتائجها المؤرقة ليلا بغير الأقراص المهدئة. لكن حتى هذه الاٌقراص كان مفعولها مثل مفعول لعبة السعادة المستأجرة أو لعبة قناع السعادة أو حقنة مخدر الحب.. كلّها وقتية وليست في واقعها أكثر من خداع للذات.. لا خلاص دائم.. هؤلاء هم ضحايا اضطراب بشع نسمّيه (عقبى الشدائد الفاجعة – posttraumatic stress disorder) وأفظع ما فيه هو أن ذكريات الكارثة تلصق بذاكرة الضحية من ناحية وتستثيرها أبسط المؤثرات من ناحية أخرى. لكن أي شدة فاجعة هذه التي تطاردها؟ إنها كارثة العصر وجريمته، جريمة ملجأ العامرية التي تلاحقها حتى وهي مسترخية بين ذراعي حبيبها: (وهي بين ذراعيه تنبثق صورة ذاك اليوم الذي اندفعت فيه إلى النهاية، هربا من أصوات الأطفال المختنقين المحاصرين بالموت في ملجأ العامرية وبكاء الأمهات وجزعهن.. عويل سيارات الإسعاف والإطفاء المتأخرة.. الصرخات.. أصوات قرع المحاصرين على الأبواب.. قرعهم وهو يخبو (يأسا).. الاستغاثات وهي تستسلم لصمت الموت – ص 51). كان يكفي أسرى الحرب لكي ينفجروا وينهاروا بعد سنوات طويلة من عودتهم، أن يطلب منهم موظف في دائرة رسمية الوقوف في طابور !! بعضهم تشكو زوجاتهم من نومهم على الأرض وليس على السرير، ومن دخولهم التواليت دون أن يغلقوا الباب !!. تصبح التفصيلات اليومية البريئة أدوات تذكّر بسنوات العذاب. جحيم ضحايا عقبى الشدائد الفاجعة هو أن الحياة عندهم تصير بدقائقها علامات على الحضور الطاغي والمؤكد الوشيك للموت !. كل شيء يوقظ أشباح الخراب التي احتلت مساحة هائلة من نفس الضحية. ولكن ما تعيشه المرأة لا يمكن وصف مرارته ورهبته، فهو يمثل أعلى أشكال هذا الاضطراب، ويتمثل في أن أي لحظة متعة حبية، أي التحام بحبيبها صار يُفسد بفعل اقتران ملذات الحب الملتهبة بأسوأ ما في صور مذبحة ملجأ العامرية من بشاعة ووحشية. فحين تداعبها شفتاه تنتصب في فسحة خيالها صورة طفل يحتضر متماهية مع الطفل المحترق.. أما وشوشاتها الغرامية بإذنه فتلتحم فورا بعويل الأمهات المثكولات.. و.. (أنها لا تستطيع إلا أن تتخيل طفلا يحتضر بينما كانت هي تنعم بمداعبة شفتيه.. عويل النسوة ووشوشات حبها بأذنه، ونعومة كفه على عنقها، والنيران تبتلع أجساد الرضع محولة إياها إلى فحم. ومثلما فقدت أقراص المنوم والمهدئات قدرتها على طرد الذكريات، أصبح يفجعها افتقاد السلام الروحي بعد احتدام جسديهما، وتمسكهما بقناع السعادة حتى وهما معا – ص 51). (وللمعلومات.. وبعد عدة سنوات قامت الدكتورة مها يونس ببحث على الأطفال العراقيين في منطقة العامرية من أصدقاء الأطفال الذين أحرقتهم الولايات المتحدة في الملجأ فوجدت أنهم يعانون من أعراض نفسية مرضية كثيرة.. والأهم أنهم عند ذهابهم إلى المدرسة يتجنبون أي شارع يمر بالملجأ ويعيد إلى أذهانهم ذكرى أصدقائهم المغدورين والراحلين حرقا، أما الطبيب العراقي محمد العبودي اختصاصي الطب النفسي فقد وجد أن عائلات ضحايا ملجأ العامرية يعانون من اضطرابات نفسية شديدة بعد سنوات من المحرقة). وتحصل نقلة خطيرة جدا حين تتوسع لعنة الخراب لتغلف النظرة الوجودية للمرأة إلى الحياة ومعنى أن تعيشها ؛ وأن تتساءل عن قيمة أي شيء في البيئة التي تحيط بها مهما كان هذا الشيء بسيطا مثل غصن شجرة المشمش التي كانت تحبها حين تغطيها نتف الثلج فتبدو براعمها البيضاء كفراشات ضالة. أفسدت الحرب كل معاني الجمال في حياتها، ولم يسلم منها حتى غصن شجرة المشمش الذي قطعه لها حبيبها من شجرة بيت هجره أهله بسبب القصف وهطول الأمطار السوداء. ففي الوقت الذي كانا يحتفلان فيه مع شجرة المشمش، كان أحد الطيارين الأمريكان يرش الموت على مجموعة من الجنود المحاصرين لأنهم حاولوا إسقاط طائرته بأسلحتهم الخفيفة وقد أثارهم خيلاء الطائرة المرتبط بإشاعة الخراب والموت. (حتى شجرة عيد الميلاد شبّه أحد الجنود الأمريكان في رسالة لأمه شعلتها بالحرائق التي أحدثها في جسد بغداد !!). لقد عمّ الإرباك حياتيهما إلى الأبد وركبهما الشعور بالذنب في أبسط التصرفات الحياتية. فعندما وصلا البيت حاولا الانشغال عن مواجهة أحدهما الآخر وكأنهما قد ارتكبا إثما كبيرا ولا يقوى أي منهما على النظر في وجه الآخر، فذهب ليسقي الحديقة برغم أمطار اليوم السابق !!. لقد وصلا إلى نقطة اللاعودة بعد أن أصبح الموت وإثم البقاء ينام بينهما في الفراش ويشاركهما في كل شيء. و" إثم البقاء – survival guilt " ليس وصفا سرديا مجازيا لعذاب نفسي متصوّر، بل هو جحيم حقيقي يكتوي به من يخرج ناجيا – للأسف – من كارثة رهيبة تمحق حيوات من يرتبط بهم ويعيش معهم. يبدأ الفرد بالتساؤل: لماذا ماتوا وبقيت حيّا؟ كان المواطنون اليابانيون الناجين من كارثة هيروشيما يشكلون جمعيات الناجين لأنهم يصلون إلى مرحلة لا يستطيعون فيها التفاهم مع غيرهم، فكيف يكون الحال مع شعب كامل، الشعب العراقي، جُزر جزء كبير منه بأبشع الطرق، و"نجا" الباقون ممزقي الروح والأوصال؟!. لكن اللعبة السردية الفريدة التي لعبتها القاصة في قصتها السابقة تعود لتكررها بصورة أكثر خلاقية هنا: وهي دخولها إلى ساحة القصة بنفسها، وتبادلها الأدوار مع شخوصها بصورة أكثر مباشرة. تتحدث الكاتبة عن بطلتها بضمير الغائب فتعيد الصورة الافتتاحية المؤلمة التي تتمرن فيها الأخيرة على نطق مفردات الانفصال النهائي، ثم تحصل نقلة سردية مباشرة نطالع فيها راوية تتحدث بضمير المتكلمة: (أجلس في غرفتي عند النافذة المطلّة على قمم الأشجار.. ص 55). وترسم لنا الراوية / القاصة لوحة تشكيلية موغلة في الجمال لتشكلات حركة الطبيعة وتلونات حياة مكوناتها من أشجار وطيور.. تشكلات وتلونات تعزف سيمفونية كونية كبرى خطوط نوتاتها أسلاك الكهرباء وسلالمها أجسام العصافير التي تتناغم مع حركة طير الحسون المختال والحمامة المتعثرة وهما تعبيران رمزيان محكمان عن بطلي قصتها في عرض حالهما الإبتدائي المتذبذب: (أسراب من العصافير تنطلق فجأة من أعالي الأشجار في حدائق البيوت فتشكل في السماء منحنيات سرعان ما تتحول إلى موجات راقصة على امتداد أسلاك الكهرباء مكونة سلالم موسيقية تتناغم في حركتها مع طائر الحسون والحمامة اللذين أجفلتهما الأمواج فجازا نحو أعالي الأشجار – ص 56). وأصوات الطيور – في نقلة إيحائية مصممة بقصدية عالية – تمتزج في فوضى تشبه أصوات الأطفال عند أبواب مدرسة في نهاية يوم دراسي ؛ زعيق الأطفال المحبب، الأطفال الذين أُحرقوا في ملجأ العامرية، وظل ألم البقاء بعدهم يدمر حياة بطلتها التي تتذكرها حين يحل الظلام وتنتابها - أي القاصة - المشاعر المبهمة، فتتذكر الفتاة وهي تروح وتجيء في غرفتها تحلم بلحظات الصمت الأزرق. وهنا تفجّر القاصة تساؤلا هائلا يرتبط بسر العملية الإبداعية من ناحية ويكشف المسكوت عنه في علاقتها ببطليها من ناحية أخرى. إنها تتساءل عن السبب الذي جعلها كقاصة لا تتيح الفرصة لبطلتها المحطمة أن تقول لحبيبها ما تريد بالطريقة التي تشاء وفي الوقت الذي تقدّر ملاءمته؟! وسيثور في ذهننا تساؤل مكمل: هل من حق الكاتب أن يستعير حياة شخوصه ويتلاعب بها كيف يشاء، محددا لحظات الخراب الفاصلة؟. وكأن الإجابة التي تقدمها إرادة في الأسطر الختامية من قصتها ترسم الدور الحاسم لـ " إرادة " المؤلف الذي يرفض الموت.. والذي لا يمكن أن يستتر وراء شخوصه فنيا إلا ليتجسد من خلالهم نفسيا. المؤلف لا يموت.. المؤلف "تستحيل" حياته إلى حيوات شخوصه، وتتمظهر من خلال جزئيات سلوكاتهم. المؤلف ينشطر بمكر ولا يموت كما وقع رولاند بارت في وهم فنائه. والمؤلف الذي شاهد محرقة ملجأ العامرية لا يمكن أن يموت.. لأن في موته موت القاريء نفسه.. وخراب النص ذاته، إذ كيف يستعير القاريء حياة مظهرية مختلقة منقطعة عن الحياة الأصل الدامية التي تفوح منها رائحة شواء لحم بشري، وعويل أمهات، وأب يتعرف على بقايا مصير طفله من ساعته اليدوية التي استعارها منه طفله ليلة المحنة وهي تمرق طافية فوق تيار رماد الأجسام الغضة، هل هو ذاك الطفل الذي لم يستطع الرجل المتصدع إنقاذه بسبب الأوامر في قصة "على الجسر": (هكذا مثل ثلج الربيع الذي يتبدد، أترانا سنتساقط في اتجاهات مختلفة، ليختار كلّ منا سبيله: هي، هو، أنا.. هما يحاولان الحياة ويدومان كفراشات ضالة، وأنا امرأة تكتب مستعيرة حياتهما عساها أن تصل إلى سكينة صمت زرقاء تحلم بها).
............................
صحيفة المثقف: (العدد: 1602 الجمعة 10 /12 /2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق