المطر الأسود
http://www.iraqsnuclearmirage.com/articles/Black_Rain_Maysoon%20AlBayati.htmlد . ميسون البياتي
هذه .. هي شهادتي على الحرب القذرة التي شاهدتها بعيني وكل حواسي ، والتي أوقعها كل العالم الحر العادل القانوني الديمقراطي المتحضر، علينا كعراقيين عزل ، مغلوبين على إرادتهم ، يقودهم مجنون أوحى له بجنون عظمته .. نفس ذلك العالم ( الحر العادل القانوني الديمقراطي المتحضر ) .
وهي شهادتي عن بلدي الذي تدمر ، وناسي الذين ماتوا او لحقهم ما هو أبشع من الموت ، وعن نفسي التي ما عادت إلي منذ ذلك الحين .
أنا أعترف ، ربما الحياة تغيرت منذ ذلك الوقت ، لكنني أأوكد .. ميسون البياتي تغيرت أيضا ، غيرتها الحرب ، ولم تعد تلك الصبية الجميلة الحالمة المدللة ، أشياء كبيرة في داخلي إنكسرت ، ولن تعود مثلما كانت ، حتى لو بإرادة القادر الجبار نفسه ، الذي على كل شيء قدير .
وأنا أكتب ، يدفعني هاجس واحد للكتابة هو : لماذا إستخدم الأمريكان القوة الغاشمة ضد العراقيين في عملية إخراج صدام من الكويت ؟؟
هل الموت والدمار والخراب الذي وقع على المدنيين الأبرياء العزل كان ( ضروريا ) لجعل صدام ينسحب من الكويت ؟
وهل إلحاق الأذى الغاشم بالجيش العراقي المغلوب على أمره والخارج توا من حرب ( إحتواء مزدوج ) مع ايران ، قررتها الولايات المتحدة الأمريكية لسحق البلدين كي لا يشكلا خطورة تذكر على محمياتها النفطية في منطقة الخليج العربي ( ضروري ) ايضا ؟
هل إلحاق الأذى الغاشم بالجندي العراقي الفرد المغلوب على أمره ، الذي لا حول له ولا قوة أمام أوامر قيادته العسكرية هو السبيل الوحيد لتحرير الكويت ؟
وألم يكن صدام والقيادة العراقية صنائع أمريكية يأتمرون بأوامرها ؟ وأن الحكومة الأمريكية كانت بالتأكيد هي التي أوحت لهم بمخطط هذا العمل المجنون .. كي تجر المنطقة الى ويلات لا يتحسبون لها ؟؟
الحكومة الأمريكية .. لو أرادت .. لكانت قادرة بالتاكيد .. أن تجر هذه القيادة العراقية الصنيعة .. الى مفاوضات خيمة صفوان ..... أو أي خيمة سواها ، من دون اللجوء الى تلك ( القوة المفرطة ) التي تعتبر بصقة كبيرة في جبين الإنسانية ، وبصقة كبيرة في شرف وجبين وعرض كل قوى الخير والمحبة والسلام على الأرض .
ولا تدري وأنت تتأمل ألبومات صور تلك الحرب المهولة الإذلال ، الآن وبعد مضي ما يقارب عقدين من الزمان ، كيف إرتضى العالم الفاسق الذي يتبجح بشعارات العدالة والحرية والإنسانية والديمقراطية ، أن يشترك في حلف من 33 دولة ليقوم بهذه الجريمة الدولية ، فيغتالنا ، بحجة تحرير بلد هو الكويت ، عملية إحتلاله ( طبخت بليل ) وسوغتها لصدام كل الدول التي شاركت بتحريره بعد ذلك ، كل من طرفها الخاص وبأسلوبها المبتكر ؟؟
يوم 1/ 8 / 1990 كنت أعمل مذيعة في تلفزيون العراق من بغداد ، بدأت العمل منذ الثامنة مساءا ، حتى الواحدة والنصف صباحا ، ثم أعادتني سيارة التلفزيون الى البيت .
كنت منهكة من التعب ، والحمل في شهره الثاني يرهقني بشدة ، غيرت ثيابي وتكاسلت عن غسل ماكياجي ، تمددت في السرير ، وأظنها 5 دقائق مرت فقط ، حين سمعت زوجي ينادي : ميسون .. إصحي الوقت ظهر .. والدنيا مقلوبة وأنت نائمة .
لم أهتم ،، منذ بداية حملي كنت معتادة على سماع هذا الموشح .. والنوم عندي عزيز بدرجة كبيرة ، إنقلبت في سريري ، لكني شعرت أن زوجي جالس بجانبي ، قال لي بلهجة غير معتادة : ميسون .. إصحي أرجوك .. الدنيا مقلوبة .. جيش العراق إجتاح الكويت .
بين مصدقة ومكذبة ، فتحت عيني وقلت : شنو ؟؟
قال : الجيش العراقي إجتاح الكويت ومنذ الصباح وحتى الآن ، تصريحات وبيانات ، والدنيا مقلوبة .
طبعا لم أصدق ، قفزت من السرير الى الراديو والتلفزيون ، فتحتهما ، وكانت الكارثة . زوجي يقول الحقيقة وهو لا يكذب علي .
قلت له : تقريبا لحد 2 صباحا كنت في التلفزيون ولم ألحظ أي شيء غيرعادي ، كيف إذن تم الإجتياح بعدة ساعات فقط ؟؟؟
بيتنا كان في المنصور ، خلف مطعم الساعة ، لبسنا على عجل وخرجنا الى الشارع ، الجو قائظ شديد الحرارة ، وأكثر من حرارة الجو إنفعالات الناس .
ذلك اليوم لم يكن عندي دوام في التلفزيون .. ولكن في حدود الساعة 8 مساءا ، رن الهاتف ، إدارة التلفزيون خبروني : بسبب الوضع الإستثنائي ، غدا عندنا إجتماع في التلفزيون الساعة 9 صباحا .
لن أكشف سرا مخفيا ، حين أقول إن دائرة الإذاعة والتلفزيون ، حالها حال غيرها من مؤسسات العراق ، كانت مليئة بعاهات وترهات كبيرة الحجم ثقيلة الوزن ، من لابسي الخاكي والزيتوني ، إبتداءا من فراش المؤسسة الى مديرها العام ، وهؤلاء كانوا مستعدين تماما لتملق أي مسؤول في الدولة من أجل إكرامية او ترقية وظيفية .
(( الزيتوني العظيم )) ، كنت أسميه رالف أمير الذباب ، على إسم رواية البريطاني وليم جيرالد جولدينج التي ألفها سنة 1954 ورفضت نشرها له أكثر من 20 دار نشر، وحين حصل جولدينج على نوبل للأدب عام 1983 ، تمت ترجمة روايته تلك الى العربية ... وقرأناها ، وأطلقنا أسم رالف أمير ذبابها .. بطلها ، على (( الزيتوني العظيم )) بطل الإذاعة والتلفزيون العراقية .
في تلك الأيام الغر الميامين قرر (( الزيتوني العظيم )) أن ( يطشرنا ) نحن مذيعي ومذيعات الإذاعة والتلفزيون على 36 محطة بث بديلة منتشرة في طول العراق وعرضه ، من أجل ، إذا إنقصفت عنده محطة بغداد ، يكون هو جاهز على التو واللحظة ومن 36 محطة بديلة للبث منها براحته ، والى أين ما تصل قدراته البثية .
فعلا كما يغني كاظم من كلمات نزار قباني وألحان فتح الله أحمد (( منين أجيب إحساس للي ما يحس ؟)) .
كافور الأخشيدي ، قصدي (( الزيتوني العظيم )) ورغم أني حامل ووضعي الصحي بمنتهى الحرج ، إلا أنه قرر يبعثني الى المحطة البديلة في كركوك ، ولسان حاله يقول : سبع بسامير بتوثيتي والعايف دمه يتقدم .
فعلا كما قال المتنبي :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
مجموعة من زملائي وزميلاتي المذيعين والمذيعات كانوا معي الى بعثة كركوك ، حملتنا الى هناك سيارة الإذاعة ، وجدنا السيد مدير تلفزيون كركوك قد حجز لنا في أحد الفنادق ، ولم أكن مطالبة بالدوام ، لأن عملي الحقيقي كان سيبدأ عندما تقصف محطة تلفزيون بغداد ، وتقريبا قضيت كل الوقت نائمة في الفندق ، ولا أدري إذا وقعت الحرب .... أي معجزة ستفيقني عندها من نومي المرضي ذاك كي أقوم بعملي الإستثنائي !!!!!؟؟
الوقت القصير الذي كنت أذهب فيه الى تلفزيون كركوك ، لاحظت فيه أن المحطة تبث للكرد ، باللهجتين الكرديتين ، السوراني ، والبهدناني ، مع أفلام كارتون ونشرات أخبار باللغات العربية والتركمانية .
سائق الدائرة كان يأتي الى الفندق عند السابعة مساءا ليصطحبني الى التلفزيون ، هناك فتحوا لنا أستوديو طواريء لنستعمله إذا قصفت محطة بغداد ، وكنا نجرب أجهزة الصوت والصورة فيه ، وعند التاسعة مساءا ينتهي عملنا ، فتأخذنا سيارة التلفزيون لتناول العشاء في أحد المطاعم ، ثم العودة للنوم في الفندق حتى اليوم التالي .
كنت أفكر طيلة هذا الوقت ... هل الأمريكان ( أغبياء ) الى الحد الذي يقصفون لنا محطة بغداد ، ثم يسمحون لنا أن نبث من أي محطة أخرى سواها ؟؟
من هو ( الجاهل ) نحن أم هم ؟؟؟
لكني كنت أداة مسيرة ،، من قبل قيادة حكومة غبية ،، ومن قبل وصوليين يرتدون الخاكي والزيتوني ، يتزلفون للحكومة الغبية ، يبشرونها بمعجزات ( تشبه المدفع العملاق ) تصل مدياته من بغداد الى جنوب المحيط الهندي ، ويكتبون لها عنا تقارير ( أحد من حد الموس ) تذبح أعتى رقبه بلمح البصر ، ويمسخون لها رأي كل العراقيين ، نحن الذين تقع علينا مصائب الحروب ، بكل جورها وهمجيتها وحيوانيتها . وفي هذه المرحلة يجب ان نقرر وبعدالة تقربنا الى الله ، أنه اذا كان كل وصولي صار بعثي ... فليس كل البعثيين وصليون ، بل فيهم ناس محبة العراق والعراقيين لديهم مثل محبة أولادهم وأهلهم .
من نحن كشعب أو كعراقيين ؟ بنظر الوصوليين ؟؟ أكثر من مجموعة حيوانات ، لا تهش ولا تنش .. ولا..!!؟؟
القصة طويلة ومؤلمة سأنشر منها ما يخص ملجأ العامرية
لمن يريد قراءة القصة كاملة
بحثت عن مكان الإذاعة العراقية فقيل لي إنه في ملجأ واقع في العامرية قرب نفق الشرطة . الملجأ كان يستقبل الناس وجزء منه مخصص كإذاعة ربما تغطي دائرتها كيلو متر واحد من بغداد . بدأت أذهب هناك كل مساء ، أجلس بين الناس المحتمية بالملجأ وأنا أعرف أن لا حامي من الموت .. والملجأ الذي قصف علي في الموصل خير شاهد .
في إحدى الأمسيات وانا أدخل الملجأ ، سلم على ضابط دفاع مدني من أقربائي وخبرني أن ( السيد الرئيس محتمل يبات اليوم معنا في الملجأ ، لأنه البارحة قضى الليل في الملجأ المجاور لنا هو وضيفه بريماكوف ) . في تلك الأيام العصيبة كان بريماكوف يقوم بوساطة بين صدام والأمريكان ، لإقناع صدام بإعطاء أمر للجيش بالإنسحاب .. رغم القتال الدائر .
جلست في الملجأ على الأرض وأسندت ظهري الى الجدار .. ساكتة أنتظر الموت .
عند الرابعة والدقيقة 17 عمت حركة غير إعتيادية في الملجأ ، قمت وسألت عما هناك .. قيل لي : إن الملجأ القريب منا والذي كان صدام نائما فيه البارحة قد تم قصفه . وفي تلك الدقائق إنطلقت سيارة من الإعلام الى موقع الحادث أصررت على مرافقتها .
وصلنا في أقل من 5 دقائق الى المكان حتى من قبل وصول فريق الدفاع المدني ، عند توقفنا ، رأينا سيارة عسكرية قادمة ، نزل منها صدام وبريماكوف لتفقد الموقع الذي كانا ينامان فيه مطمئنين الليلة البارحة ، وقد اصبح محرقة لما يقارب 2000 إنسان إشتعلوا الى حد التفحم .
حين فتح الدفاع المدني الباب وبدأوا بإخراج المتفحمين ... فإنك تنسى كل صور البشاعة التي شاهدتها ولكن من المستحيل أن تمحى من ذاكرتك رائحة الشواء البشري المتفحم .
جريمة قصف ملجأ العامرية ، جريمة أرتكبت بدم بارد ، ولم تقع عن خطأ ، وإنما عن تصميم مدروس . بريماكوف كان يفاوض صدام نيابة عن الأمريكان حول الإنسحاب ، وصدام من موقعه كقائد كان يتصور أنه يمكن ان يعطي أقسى الخسائر دون ان ينسحب .
حين قصفوا له ملجأ العامرية الذي كان ينام فيه البارحة ، قالوا له بفجيعة من حريق : إترك وهم القيادة ، فهذه الحرب ليست أكثر من لعبة بالنسبة لنا ، وحتى تعرف جودة لعبنا لها ، تفرج بعينك على وهم المكان الآمن الحصين الذي كنت تنام فيه الليلة الماضية .
بعد يومين ،، أعطى صدام أوامر للجيش بالإنسحاب ، فتقهقرت القوات العراقية تاركة سلاحها في مكانه ، ومن إستطاع ركوب سيارة أو عجلة ، عاجله القصف على الطريق ، ومن لم يتمكن .... عاد مشيا على قدميه .
الخنادق التي شاهدتها بعيني ممتدة من المطلاع حتى طريق الأثل ، مات فيها بلا قيمة موتا أسودا نصف مليون جندي ... ويعلم الله كم من الإبل والأشجار .
حين أنسحب الجيش العراقي من الكويت ... تم تفجير آبار النفط الكويتية ، ربما فجرها العراقيون مثلما قيل ،، وربما والله أعلم ، فجرتها القوات المتحالفة لتحرير الكويت ... فشركات إطفاء وتصليح منشآت النفط الأمريكية بحاجة الى عمل في هذه الحرب ، عمل تدفع أجرته حكومة الكويت .
بعد قصف ملجأ العامرية صارت الناس تبقى في بيوتها ولا تذهب الى الملاجيء ، بعد يومين من إعطاء أمر الإنسحاب ، كنت في البيت ، عند الثانية والنصف ظهرا ، أظلمت الدنيا ظلاما دامسا بفعل سحابة دخان كثيف أسود قادم من الكويت من آبار النفط المشتعلة ، وأمطرت السماء علينا مطرا أسودا حامضيا جلل بسخامه كل البيوت .
لوحة زيتية أخرى من لوحات الحرب تسخر من كل أعمال بيكاسو وسلفادور دالي ترسم صورة رمزية للسفالات التي يتعرض لها المدنيون العزل في زمن الحروب التي لا داعي لها .
تمددت في السرير لأنام نوم هروب من الواقع الثقيل جدا .. محتضنة الروب السمائي الذي كان يلف وليدي منذ لحظة ولادته حتى لحظة موته ،، ورأيت نفس الحلم الذي رأيته في ملجأ الموصل عندما أقفل علينا .. شمس ساطعة وانا أتمدد في خندق بين خنادق الجنود وهذه المرة أحمل قاذفة على كتفي أرمي بها على السماء ، وطائرات قاصفة ترمي علينا قطعا من حديد تنفجر متحولة الى أمواس تذبح الإبل والجنود فتتصاعد منهم نوافير من الدم .
بعد 45 يوم من الحرب أعلن وقف العمليات العسكرية ،، كنت مهدمة تماما وأبحث عمن يقتلني . فقلت عل وعسى تقصف الإذاعة مرة أخرى .
ذهبت الى دائرة الإذاعة والتلفزيون في الصالحية فرأيت الطائرة القاصفة قد حولت لنا مجمع البث الى ذرات تراب متناثر وحفرة عمقها 15 متر ، فإتصلت بزملائي في الملجأ ، عندها رأيت الأستاذ سامي مهدي الذي أبلغني بالتواجد ذلك اليوم في بناية التلفزيون التربوي في الأعظمية لأن فيه الأستوديو الوحيد الذي لم يقصف في كل العراق .
كنا أربعة فقط : المدير العام ، والمخرج ، وفني الصوت ، وأنا ، إفتتحنا البث من التلفزيون التربوي عند السادسة مساءا ، بغداد كانت غافية في ظلام وليس فيها كهرباء ولا أدري لمن كنا نبث ؟؟
القصص المهولة عما كان يحدث في المحافظات الجنوبية كانت قد وصلتنا رغم عدم وجود إتصالات ، وكان المتوقع أن تقع نفس القصص في الشعلة والثورة وبقية المناطق التي تسمى ( أطراف المدينة ) .
وعلى قدر ما كان ذلك يثير خوفي .. على قدر ما كنت أتمناه .
كنت أبحث عمن يقتلني .. لأن زهوي الإنساني وبعد كل ما حدث كان قد مات .
ذلك الأسبوع من العمل مع الأستاذ سامي مهدي .. يهددنا خطر مجهول لا تدري من أين سيأتي .. أو كيف سيأتي .. حملني إنطباعا رائعا عن إنسانية هذا الرجل .. إنطباعا يجعلني أقرر : أنه لا يمكن أن يكتب الشعر .. إلا إنسان .
عند الثامنة مساءا كنا نقفل البث . وتحملنا سيارة التلفزيون نحن الأربعة الى بيوتنا ، وبقينا نمارس هذه العملية يوميا لمدة أسبوع ، بعدها إزدات فترات البث ، وصار واحد من الزملاء المذيعين يأتينا يوميا من ملجأ الإذاعة لقراءة نشرة الأخبار .
في نهاية الأسبوع الثاني تمت إعادتنا الى الصالحية بعد تجهيز الاستوديو القديم الذي كنا هجرناه منذ العام 1976 .
بعد 20 يوم من إعلان وقف العمليات العسكرية ، كنت في البيت حين سمعت صوت مفاتيح تدورعند الباب ، ذهبت أركض ، أنفتحت الباب ، ودخل زوجي ، نظرنا الى بعضنا ومن دون أي كلمة .. بدأنا بالبكاء ، بقينا حوالي شهر .. كلما نظرنا بوجه بعضنا نبدأ بالبكاء . فقد إنهار الوطن .. ومات العراق .
توسل بي زوجي أن أراجع طبيبتي النسائية الأستاذة الدكتورة عفاف صائب شوكت الجبوري ، قال لي إن حالة الهزال والإرهاق التي أنا عليها ليست طبيعية الى حد بعيد ، لكنه كلما حدثني عن ذلك أذكر إبني وأبكي ، وأرفض العلاج .
أتصل هو بالدكتورة وأخذ لي موعدا وأجبرني على مصاحبته الى هناك ، دخلنا العيادة قبل وصول الدكتورة ، وفي موعد وصولها عم هرج ومرج في العيادة ، الدكتورة عفاف ... أم أيمن الغالية .. ماتت بنوبة قلبية مفاجئة عند باب عيادتها ، وهذه النوبة كانت قد قتلت الكثير من العراقيين نتيجة صدمتهم بالحرب .
ترى يا أم أيمن ... ماذا رأيت أكثر مما رأيت أنا .. لتموتي وأبقى أنا حية ؟
بعد أقل من عام مات أخي وزميلي وصديقي مقداد مراد ، بعد صراع مرير مع المرض الخبيث الذي ظهرت عليه أعراضه بعد أسبوع واحد من قصف ملجأ العامرية .. حيف على ذلك الشباب والوسامة يا أبو ديار يضمك قبر .. وتبقى الحياة للناس العار .
بعد عدة أشهر من رحيل أبو ديار .. لحقه أخي وزميلي وصديقي الآخر رشدي عبد الصاحب .. غادرنا أبو وسام ، كواحد من خسائر الحرب غير المنظورة ، بعد أن أمضى عمره كله في الإذاعة ، كنا نعده عمدة التلفزيون .. والآن راح العمدة .
أعدت ( ما تبقى من الدولة ) قوائم لعق جراح الحزبيين والمواطنين ، تحت تسمية : أنواط إستحقاق ، أو انواط شجاعة .
أحمد الله لم يلحقني شيء منها ... وإلا ماكنت سامحت نفسي لو قبلت دية وليدي .. حتى لو كانت دية رغم أنفي .
الزيتوني العظيم .. رالف أمير الذباب .. إختلف مع الدولة على عدد أنواط الشجاعة والإستحقاق الممنوحة له ، غادر العراق في إيفاد .. ومن هناك الى أمريكا . هو حاليا مواطن أمريكي .. واحد من كبار من ينادون بإجتثاث البعث .
رجل يعرف من أين تؤكل الكتف .. لذلك قدرها جيدا ، أول رؤيته الثقب في قاع مركب البعثيين ، غادر المركب وركب موجة جديدة . ولو كانت هناك عدالة ، فهو وأمثاله من البعثيين أو غير البعثيين ، يستحقون إجتثاثهم من الإنسانية ضربا بالأحذية ورجما بالنعالات .
فقدت إحساسي بالجمال .
فقدت إحساسي بالمتعة .
فقدت إحساسي بالسعادة .
الحياة ليست نعمة ، ولا هي نقمة ، لكنها تبقى مكان للعمل على أي حال .
وبهذه الروحية والمشاعر سأدخل الى عهد الحصار الذي أعقب الحرب . ومنه الى عهد التشرد بالغربة عن الوطن .
ولم أزل حية .
كم هي معذبة هذه الحياة .. وعليك قبولها مرغما .. شاكرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق